ضفيرةُ الموتِ الشقراءُ

ضفيرةُ الموتِ الشقراءُ

 

ضفيرةُ الموتِ الشقراءُ

الشاعرة التونسية / سارة للصفوة

أملُ هي امرأةٌ خمسينية العمر كستنائية العينين قمحية البشرة طويلة الرقبة والشعر خيزرانية القوام امرأة شرقية الجسم وزنها يتراوح بين الخمس والخمسين والستين كيلوغرام …امرأة تقليدية في كل شيء تصبغ شعرها بالحناء لتحارب الشيب الذي زار خصلاتها …هي ترفض كل ما يلوث جمالها الطبيعي من أصباغ ٍ وألوانٍ ترفض أن يكونَ وجهُهَا مسرحا لتصارعَ على ركحه الألوان المتدرجة الأخضر والأحمر والوردي والأسود…ترفض أن تتلاعب ريشة الماكياج به وتعبث بنعمة الله وتئد نقاءها وصفاءها … هي امرأةٌ عاشقةٌ للكتاب منذ صغرها …كانت تلتهم بشراهة كل ما تصل إليه يدها من كتب حتى أن بعضهم تنبأ لها بنهاية كنهاية الجاحظ تحت كومة من الكتب .. عندما كانت تتخذ من مكتبة المعهد محرابا تتعبد في حضرة الحرف والكتاب …. ومن الكتب التي لا تزال حروفه تخز ذاكرتها كتاب “المو ت” الموت ذلك الحق الذي نخافه ..النهاية الحتمية لكل واحدٍ منا …النهايةُ المادية رغمَ أن الكثيرَ منا يموتُ يوميا آلافَ المرات …الموتُ لا يعني تلك النهاية المادية لوجودنا …الموتُ هو أن يموتَ الإحساسُ بالجمال بداخلنا …أن يموت الضمير فينا …أن نئد الأخلاق الحميدة ….الموت هو انعدام الشعور بالآخر فينا وبمعاناته…..ولكن ما تخشاه أملُ هو الموت المادي لأنها إنسانةٌ مرهفة الحس ….تتسابق الدموعُ أنهارا على وجنتيها أمام كل موقفٍ مؤلم وحساس ….هي مربيةُ أطفالٍ ..تعشقُ مهنتها وتمنحها كل وقتها …تتطوع لكل نشاط من شأنه أن يرتقي بأطفالها …..والطفلُ مستقبلُ الوطنِ ….هو مادة خام نطوعها بما نبذله من جهد لتعليمهم ..هو صفحة عذراء نرسم عليها بريشة الأمل وبحروفنا أروع قصة بناء …الطفل الأمانة الربانية التي لم نحافظ عليها. للأسف ! … أملُ هي عطاءٌ بلا حدود …هي نكرانٌ للذات ….هي نبعُ حنانٍ لا ينضب .. هي أم حنون لأبناء لم تنجبهم . أمل تخز ذاكرتها أحداثُ قصة قرأتها في الثامنة عشر من عمرها بطلتها فتاةٌ عشرينية فى ربيع العمر ..بيضاءُ البشرةِ ..خضراءُ العينين…شقراء الشعر اشتكت هذه الفتاة من ألم في رأسها …عادت الطبيب الذي اكتشف ورما خبيثا فيه …..هذا الطبيب سَحَرَهُ جمالُ الفتاة الجاهلة لمصيرٍ مظلم ينتظرها ….فتاةٌ منحها اللهُ جمالا تعجز أبجدية اللغة وحِرفية الكاتب عن وصفه …..جمال سيُهدى إلى القبر ..لا تزال أمل تتذكر هذا الكتاب وهذا الكاتب وعروس القبر ….لا تزال تتذكر الصراع الداخلي المتوحش الذي ولد بين حنايا ضلوع الطبيب الشاب ….موتٌ مؤكد وجمالٌ فتان سيُقدم قربانا للرمس …رب السماء رحماك……..يتبع • طبيبٌ شاب أمام جمالٍ فتان وموت مؤكد وقارئة مرهفة الحس تخزها ذاكرتها كما تخزها أوجاع تتسلل إليها عبر جسر سواد الليالي ….أوجاع استوطنت أعلى الصدر من الجانب الأيسر أسفل نهد نحيل …كانت أمل تستيقظ كلما وخزها الوجع الملتحف بالظلمة …كانت تضع يدها على موضع الألم وترفع عينيها إلى سقف غرفة تسلل إليها بعضُ نورٍ من الخارج عبر نافذة …كانت تبحث عن نور إلهي وتستنجد بقراءة آية الكرسي وبدعاء لرب رؤوف رحيم وكانت تؤنس وحدتها مع الألم دموعٌ ساخنةٌ تحرق وجنتيها وتبلل وسادتها .كانت تخفي كل ما تعانيه عن كل المحيطين بها وكانت تتجرع هذا الكم من المعاناة وحدها وتخشى أن تجرح إحساسهم بالفرح وبالأمن ….وتخظها الذكريات وتعود الفتاة ذات الضفيرة الشقراء لتبث الفزع داخلها ….وتعيدها إلى قصتها ويعود الشريط إلى المرور أمامها…..طبيب مفزوع ..عليه أن يعالج الفتاة ولو كان الموتُ حتميا …طبيب يعرف نهاية شقراء وعشرينية العمر ….عشقها قلبه اليافع …طبيب يتأرجح بين العشق والشفقة …مزقته هذه المشاعر بمخالب ذئبية….أتراه يخبر فتاته بنهايتها أم لا ؟ …طبيب يتأمل ضفيرة ذهبية اللون لن تكون إلا في إطار للذكرى أو في سلة المهملات…….تبا لهذا الخبيث الذي يقدم أحبابنا قربانا للقبور يبزغ الفجر وتعود أمل الطمئنينة بسماعها لأذان الفجر …تقوم لتلبي دعوةَ ربٍ كريم رحمان رحيم …. وتسأله أن يلطف بها وبكل من يعاني وجع يحمله على جناحيه الى موت حتمي ويهجرها الوجعُ ليالٍ ولكنه يعود كما تعود إليها الشقراء ويفزعها حلم وترى من خلاله الفتاة معلقة بضفيرتها الذهبية التي اغتصبت منها الحياة …..وتنتفض أمل وتستنجد بجرعة ماء وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ….وتحملق في سقف الغرفة وتلوذ بالصمت لحظاتٍ …وتستعيد أنفاسها وتقرأ ما تيسر من القرآن وتحتمي بأغطيتها لعل النوم يهدهدها والخوف يهجرها…..يتبع …..منذ فترة طويلة وأمل يمزقها هذا الوجع ويؤرجحها شريطُ الذكرياتِ وقصةُ الموتِ وما تشعرُ به وتزورها الفتاة في كوابيسها فتاة قدمها الخبيثُ قربانا للقبر ..عجز الطب والطبيب عن تغيير نهايتها … فشلت العملية وماتت الشقراءُ العشرينية ….تتذكر أملُ كيف كانت يدا الطبيب ترتعشان عند قص الضفيرة الذهبية الطويلة وحلق بقية الشعر ….طبيب ترتعش يداه ويخفق قلبه حبا لمريضته وشفقة عليها كيف سيجري عملية وتنجح ….هل هذا كان سببا في وفاتها أم العجز العلمي آنذاك هو السبب مرت عن قراءة أمل لهذه القصة قرابة الأربعين سنة ولكنها لا تزال راسخة في دهاليز ذاكرتها وتبقى أمل ذات الضفيرة ثلاثية الألوان والطويلة أسيرة أسيرة الخوف من الأوجاع التي لا تعلم سببها وخوفها من مراجعة الطبيب والخوف الدفين بين أحضان ضلوعها …ولكن يبقى في ظلمة كل هذه المخاوف ثقب يشع منه أمل ملتحف برحمةٍ إلهيةٍ ويبقى حبها للمحيطين بها وخوفها عليهم جسر يحميها من سقوط في هوة اليأس وكما تردد هي دائما ” لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس” وتبقى الرحمة الإلهية نورا يشعُ في دربِ أمل …. الأديبة سارة التونسية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى