تأليف / ميمونة الشيشانى
هرب القميص ذو الأكمام القصيرة من بين الملابس الصَّيفيّة التي أخرجتها أم سعيد من الدُّولاب، لتبدَّلها بملابس شتويّة بعد أن اقترب موعد حلول فصل الشِّتاء، فقد تسرَّب البرد إلى الأجواء، ولاحت حاجة الأجساد إلى ملابسٍ ثقيلةٍ تحفظ الدِّفء فيها.
تسلَّل من النَّافذة وولّى هارباً، تاركاً وراءه أثراً من قطرات دموعه، فقد كان حزيناَ لأنَّ أمَّ سعيدٍ ستحرمه من ملازمة ابنها الذي أحبَّه كثيراً، وجعلها تبتاعه له منذ أسابيع، وسترغمه على ارتداء تلك الكنزة الخضراء الصّوفيّة عوضاً عنه، كما أنّ البنطال حدَّثه عن ذلك السِّجن المُظلم الذي تُزجُّ فيه الملابس لشهور عديدة، فكيف سيمكنه العيش في قبو السَّرير؟؟
أخذ القميص الحزين يزحف ويزحف حتّى وصل إلى حديقة بيتٍ قريب، رآه ابنهم سمير ففرح به، أخذه إلى غرفته، ثمَّ ارتداه بعد أن خلع كنزته الصُّوفيّة.
فرح القميص كثيراً، وراح يقول في نفسه: أحسنت يا سمير، إنَّك ولدٌ عاقلٌ تُقدِّر الأشياء الجميلة، ولست كأمِّ سعيد التي أرادت التَّخلُّص منّي.
خرج الصَّغير من المنزل دون أن تلحظه أمه، وتوجّه إلى الملعب مُختالاً بقميصه الجديد، دُهش كلُّ الأصدقاء منه، وقالوا: قميصٌ صيفيّ! في فصلٍ شتويّ! لكنَّه لم يأبه بكلامهم، وعندما نصحوه بأن يخلعه ويلبس كنزته رفض ذلك، وبدأ بلعب الكرة.
فجأة بدأ سمير يرتعش من البرد، وغادر مُسرعاً بعد أن انتابته نوبةٌ من العطاس، تبعها ارتفاع في درجة حرارته. أنّبته أمُّه على فعلته، وخلعت عنه القميص الصَّيفيّ، وألبسته كنزته.
تسلَّل القميص البائس من النَّافذة، عندما رأى الطَّبيب على وشك إعطاء الصَّغير حقنةً لتُخفِّض حرارته، وهو يشعر بالأسى عليه، وراح يؤنِّب نفسه لأنَّه سبَّب المرض للطِّفل.
ولمّا أصبح في الحديقة هبَّت ريحٌ قويَّة حملته معها، فجعلته على ارتفاعٍ عالٍ حيناً، ثمَّ مُنخفضٍ حيناً آخر، أخذت تدور به حتّى بدأ يشعر بالدُّوار، فراح يرجوها أن تتركه وشأنه، ولكن دون فائدة، ومن شدَّة الخوف غاب القميص عن وعيه.
استيقظ ليجد نفسه فوق شجرةٍ عالية، ترفرفه نسماتُ هواءٍ باردة، نظر إلى نفسه وحمد الله لأنّه اتّسخ ولم يتمزَّق، ولكنّه خاف من عودة الرّيح، لأنَّها لن ترحمه إن بقي عالقاً، فحاول أن يتحرَّر من غصن الشَّجرة كي يهبط إلى الأرض، إلاّ أنّه فشل، فراح ينادي على العصافير كي تساعده، لكنّها لم تسمعه لأنّها اختبأت خوفاّ من أن تبلِّلها حبّات المطر.
لم يعد بوسعه عمل شيء سوى الاستسلام لدموع السَّماء التي تنهمر بشدَّة، ولنسمات الهواء التي تزداد برودة، والتي لم يعد بإمكانها تحريكه بعد أن أثقله ماء المطر، فقضى ليلته حزيناً باكياً.
إلاّ أنَّه استيقظ على صوت سعيدٍ وهو ينادي أمَّه: أميّ، أميّ انظري إلى أعلى الشَّجرة، أليس هذا قميصيَ المفقود؟ نظرت الأم إليه وقالت: نعم، يا لقميصك المشاكس! كيف وصل إلى أعلى الشَّجرة؟ قال سعيد: أرجوك يا أميّ أنزليه.
لم يُصدِّق القميص ما قد سمع، وظنَّ أنَّه يحلم، ولكنَّه فرح فرحاً شديداً عندما أصبح بين يدي أمِّ سعيد الدَّافئتين_ بعد أن أحضرت سُلَّماً والتقطته_ فلحسن حظِّه وضعته الرِّيح على شجرة التُّوت المزروعة في حديقة بيتهم.
قامت الأم بغسله، ففاحت منه رائحةٌ عَطِرة، وعاد قميصاً نظيفاً خفيفاً بعد أن جفّ، طوته فأحسنت طيَّه، ثمَّ فتحت قبو السَّرير، وقالت للقميص: لا تخف من هذا المكان، لأنَّك ستنعم فيه بالدِّفء، وسيحميك من الرِّيح المشاكسة، ودَّعه سعيد وقال له بعد أن قبَّله: حان الآن وقت نومك، وعندما يأتي الصَّيف سنلهو معاً في الملعب.
غطَّ القميص مع الملابس الصَّيفية الأخرى في النَّوم، وهو يحلم بقدومِ صيفٍ جميلٍ.
النهــــاية