دمعة ذئب
دمعة ذئب

إعداد: ميمونة الشيشاني(الأردن)

وقفتُ بين الجموع المودِّعة.. أشهدُ ذبول جدران البيت.. أتلمَّسُ يباس قلبي.. لم أزغ بصري عن العربة.. اشرأَّبتْ عنقي.. وقفتُ على أصابع قدمي.. شددتُ على عيني.. كي لا تُقطع خيوط رؤيتي المعقودة بوشاح بيتمت .. تمنَّيتُ لو تعملق جسدي لحظتها لأودِّعها حتى أبعد مدى.. اخترقتِ العربة بعض الأشجار.. بدأ القدر بحجبها عنِّي.. فكَّرتُ أن أصعد إلى سقف البيت.. لكن راودتْني فكرة الُّلجوء إلى الفضاء..
وجدتُ نفسي أُهرول بصحبة أويس باتِّجاه البرج الحربيِّ( بعو) *1.. كان يقف بشموخٍ على كتف وادٍ غائرٍ في أعماق اللَّانهاية .. ويعلو عن سطح الأرض عشرة آرشات *2. أعادتْ ذاكرتي الزَّمن ثلاثٍ من السَّنوات.. عندما كثَّفت القوَّات الرُّوسيَّة اعتداءاتها المُسلَّحة على بلادنا.. حينها دُكَّتْ قرىً كثيرة بالمدافع.. واخترقتِ السِّهام والرَّصاصاتُ الصُّدور والجدران..
كنتُ ألهو وبعض الأطفال في مرتع طفولتنا عندما نعقتِ الحرب.. جفلتُ لوهلة.. ثمَّ شدَّني الخوف من قدميْ.. جريتُ على غير هدىً في دربٍ مُشتعلٍ.. تهاوتْ إليه أجرامٌ من الجحيم..
تضخَّم قلبي.. رفرف كعصفورٍ مُرتعد.. شعرتُ أنَّ حواسِّي كلَّها ازدادتْ حِدَّة.. صقرٌ ينظر من خلال عينيْ فأرى أميالًا من فيالق العدو.. أسدٌ يدُسُّ أنفه في منخريْ فأشُمُّ ريح الموت.. أفعى تسكنُ جلدي فأشعر بحرارة الكون.. وذئبٌ يربض في أذنيْ فأسمع جَدَفَة العسكر، وقعقعة البارود، وارتجاف الأرض..
وضعتُ أصابعي في مسامع الذِّئب.. تلفَّعتُ بسكونٍ مُصطنع.. ركضتُ في المدى المُشرع أمام جسدي.. تعثَّرتُ بدقَّاتِ قلبي.. لملمتُ نفسي.. حبستُ الفؤاد المضطرب بين ضلوعي..
هرولتُ من جديد.. قادتْني خطواتي المفزوعة إلى مشارف البيت.. وجدتُهم عند البوَّابة الخارجيَّة بانتظار عودتي.. قلقٌ يرسمُ معالمه باحترافٍ على ملامحِهم.. غضبٌ يلَّون بريشته المعقوفة صفحاتِ وجوههم.
جدِّي يرتدي وجهًا عبوسًا.. يحمل عكَّازته باليُمنى.. وبيُسراه تعلق أخشابٌ وأداةُ نحت.. أُمِّي تُمسك بملامحها الصَّارمة طفولة أخويْ الصَّغيريْن .. بيتمت تشدُّ قبضة قلبها على إبريق الماء.. ترشق قطراتُه جَنانها الملتهب.. مراد يجرُّ الثوريْن والسِّتة خرافٍ خلفه.. ويجرُّ معها خوفه من المجهول.. يرتبك.. ينتقل ارتباكه إلى الحيوانات.. تُعاند المشي.. يضطر إلى لجمها لجمًا خفيفًا.. أبي يحشو بندقيته اليدويَّة بحنجرةٍ خرساء.. لكنَّ شفاهه لا تكفُّ عن ترتيل آياتٍ من القرآن.. وبصره السَّماء.
بِخُطىً سريعةٍ قصدنا وكلُّ من في القرية البعو.. مقصد المُستضعفين من الشُّيوخ والأطفال والنِّساء.. وغاية المُدافعين عن الأرض.. أضف إلى ذلك أنَّه كان ملاذي من حربٍ أُخرى مستعرة في داخلي.. تتعارك فيها أحشائي مع أحشائي.. لأنَّني لا أملك من الأمر شيئًا سوى الاحتراق.. فأنا أرى القرية تُسلِّم بيتمت إلى عريسها.. وأقف عاجزًا عن استردادها!
دخلتُ وأويس هذا البرج الطَّويل ذو القاعدةِ المُربَّعة من بوَّابةٍ خشبيَّةٍ ضخمةٍ.. سيطر على المكان صوت سحق أقدامنا لبواقي التِّبن المتناثرة هنا وهناك.. واحتلَّ رأسي صوت ثغاء الخراف، وخوار الأبقار، ونقنقة الدَّجاج.. فإلى هذا المكان سيقتْ حيوانات القرية أثناء القصف..
صعدنا سُلّمًا خشبيًّا مصنوعًا من جذوع الأشجار ذات التَّجاويف الجانبيَّة.. أسرعتُ خوفًا من اختفاء موكب العرس.. فقد وعدتُ نفسي أن أودِّع غروب أختي عنَّا حتَّى آخر مدى.. وليتني أستطيع أن أشهد شروقها في المكان الآخر..
تسارعت خطاي.. كدتُ أنزلق.. تمالكتُ نفسي في اللَّحظة الأخيرة.. نجحتُ في الوصول إلى نهاية السُّلم.. وجدتُ الموقد وسلسلته الطَّويلة أمامي.. وخطَّاف تعليق الَّلحم عن يميني.. تذكَّرتْ معدتي هذه الحُجرة.. اشتمَّتْ ذاكرتي الرَّوائح الزَّكيّة المُنبعثة منها.. رأيتُ من بين ضباب البخار المُتصاعد أُمِّي ونساء القرية يُحوِّلن الخيرات النَّيئة إلى خيراتٍ مطهوَّة .. فنصمدُ أسابيعًا أُخرى في البرج..
نفضتُ عن رأسي قُصاصات الماضي.. أخذتُ السُّلم الخشبي مرَّةً أُخرى.. حاولتُ كبح جماح أنفاسي المُتسارعة.. صعدتُ إلى حُجرةٍ ثالثة.. تسلَّلَ من جدرانها الصَّخرية أصواتُ أطفال، نساء، شيوخ.. بكاء.. ثرثرة.. شخير.. حكايا..
أبصرتُ فيها خزانة حائطٍ تجمع أدوات القتال.. وعنبرًا مُخصَّصًا للغلال.. وقع نظري على الرُّكن الغربيِّ منها.. لمحتُ صورة يوسف ومصطفى وهما يلتصقان بحِجْرِ بيتمت.. ورأيتُ الأطفال يتحلَّقون حول جدِّي الذي ينحت نسرًا مُحلِّقًا.. مخالبهُ مغروزةٌ في ظهر جنرالٍ روسيٍّ مُغطَّىً بدماء الأبرياء.. ورأيتُني أسترِق النَّظر إلى السَّماء عبر كُوَّاتٍ صغيرةٍ مستطيلةٍ في الجدران.. ولمَّا حاولتُ تسلُّق الكُوَّة هزَّتْني صرخةُ عجوزٍ طاعنةٍ في السِّن.. وهي تأمُرني بالإبتعاد حتَّى لا يُصيبني أيُّ مكروه..
تبًّا.. كلَّما أسرعتُ زاد لُهاثي.. وفاق اشتياقي.. وكلَّما صعدتُ سُلَّم الفضاء ضاق بي البرج .. وشرع قلبي الذي لا يحتمل غياب بيتمت يضغط على ضلوعي.. يصفعني بين كلِّ نبضةٍ ونبضة..
داعبتْ نسيماتٌ عليلةٌ حُزني حال ارتقائي قمَّة البعو.. التصقتُ بفتحة مخصَّصةٍ للرِّماية.. كانت تربو على جسدي الصَّغير.. فلا أستطيع رؤية سوى السَّطح الاستناديِّ الذي يتَّكئ عليه الرَّامي.. أطلقتُ بصري.. وجدتُ منصَّةً خشبيَّةً صغيرة كفيلة برفعي وأويس مسافة تسمح لنا برؤية الأرض.. شعرتُ بأنِّي في السَّماء السَّابعة.. غيمةٌ تسبح فيها.. انتابني دوارٌ لمَّا تقزَّمتِ القرية وأشجارها السَّامقة.. وكاد يُقضى عليَّ لمَّا نظرتُ من الكُوَّة الغربية المُطلَّة على وادٍ سحيقٍ في محاولةِ التقاط موكب العرس.
– أويس: ” أجزم أنِّي أستطيع رؤية كلِّ بلادنا من هنا.. أتعرف بِتُّ أغبط النِّسر على جناحيْه.. ليتني…”
– ” هشششش.. أتسمعُ تلك الهمسات؟ “
– ” همسات؟ “
– ” صدى همساتِ بنَّائي البعو وهم يتناقلون تلك الصُّخور الضَّخمة ويشذبونها.. ششششش.. “
– “ها؟ “
– ” الملاط! إنّه ينفثُ بقايا دندناتهم.. يبدو أنَّها لم تتوقَّف رغم استغراقهم في تشييده ثلاثمئة وخمسةٍ وستين يومًا!”.
تذكَّرتُ حكايا جدِّي عن أبطال الأبراج الذين يسكنون قمَّتها.. لمحتُ أطيافهم تملأ المكان.. تُذيب الحديد.. تغلي الماء.. ترشق العدوَّ بسهامٍ من نار! تذكَّرتُ عبارته عن البعو قائلًا:
– ” في الحرب تدُبُّ الحياة في الأبراج.. تشهق وتزفر.. وتموت القرية من الهجران.. أمَّا في الرَّخاء تتحوَّل الأبراج إلى شواهدِ حرب.. وتُعاود القرية ظهورها في خارطة الحياة! “
أيقظني أويس من ماضيَّ الذي يعيش بي، وأزال آثار وسنٍ عتيقٍ يُكحِّل فكري.. هتف:
– ” الموكب! موكب العروس! ألمحه عند الميدان الكبير.. أنظر!”
أخذنا نراقبُ الموكب.. كان كمركبٍ مُشرعٍ مُتراقصٍ فوق أمواجٍ خضراءَ مُتلاطمة.. يَغرقُ تارة .. يَظهرُ تارةً أخرى .. يَصغُر.. يَبتعِد.. يَتقزَّم.. فيزدادُ شرخ قلبي تصدُّعًا.. وتجيش مدامعي بعبراتٍ خجلةٍ تهابُ الإنهمار..