حفر ونبش …

حفر ونبش ...

الأديبة / نجلاء عطية (تونس- بلاد الثقافة والفنون)

كم كان صراخه مفزعا وابتسامته تنسكب من شفتيه الرقيقتين على خده مالحة كالبحر . بقي يجمع الحروف على ضوء خافت بعيد يتسلل إلى الغرفة من شقوق نافذة لم تفتح منذ شهور …يلقنه أخوه الذي يكبره سنا درسا في الأولويات …ما أكثر من يهبهم غباؤهم الحق في حكمنة الوجود وما أقل من يتكبرون عن معنى القول بحثا عن معنى المعنى فيصمتون …. ما أكرم ذاك الذي صنع للبيوت أبوابا نحكم غلقها كلما اشتد بنا الألم….. و قرر ذات صباح أن يغادر المكان على عجل وحمله جنونه الى المقبرة…لم يكن يوما من زوار القبور …كان دائما يردد حين يخبرونه عن موت أحد الأقارب أو الأصدقاء : ‘والله صحه لمّو ارتاح” … أتراه ذهب إلى هناك حيّا أم ميّتا؟! … وما إن وصل حتى جرى إليه أحد الملتحين وهو يتعثر في جلبابه الطويل ومسبحته الصفراء وكتابه القديم وقال في نبرة حازمة : عشر دنانير لزيارة قبر عزيز عليك فنظر له قائلا : لي هنا عشرة فهل من تخفيض؟! أجابه بإشارة مكررة بأصابعه الخمسة فدفع له ضعف المبلغ لأنه في حاجة إليه…. قبّل صاحب الجلباب الورقتين النقديتين باشتهاء وساله: عمن تبحث؟ أنا أحفظ أسماء الأموات هنا واحدا واحدا وسأقودك إلى حيث المغفور لهم دون أن تتيه بين القبور .ففتح محفظته ومده بالقائمة. وانطلقا معا يقفزان فوق الأسماء حتى وصلا إلى أول الراحلين . جلس عند رأسه وقرأ ما تيسر وانصرف إلى الثاني فالثالث …إلى أن جاء دور الميت السابع فقال له صاحب الجلباب الأبيض: هذا الإسم الغريب لا يوجد عندي بالمقبرة . فاقترب منه الرجل وأجابه: إنه هنا لكن ذاكرتك خانتك. فصاح صاحب الجلباب وهو يشد على لحيته: هل جننت ؟! وكاد يقسم باغلظ الأيمان ليؤكد للرجل صحة قوله فاقترب منه أكثر وشد على ساعده الأيمن وطلب منه أمرا عجيبا : اجعل لهذا الإسم قبرا وسأعطيك تاريخ موته. فصاح : ويحك، هذا تزوير يقودنا إلى السجن. فأدخل يده في جيبه وسحب مبلغا مهما وأعطاه لصاحب الجلباب الطويل قائلا: لا تخف احفر هنا ثلاثة قبور ويمكنك أن تهدمها بعد أن أغادر المكان فلن أعود ولن يعلم سوانا بهذا الأمر. لم يتردد ذاك الملتحي لحظة بعد أن أخفى المبلغ في جيب سرواله ودثره بالجلباب الطويل و انهمك يحفر الأرض بكل قوة وبعد مضي ساعة تقريبا كانت الحفر جاهزة . واقترب الرجل من الحفرة الأولى وسحب من محفظته كتابا لفه في قطعة قماش ناصعة البياض ونزل به ومدده في صمت رهيب ثم رفع رأسه وبكى كما لم يبك على أهله وذويه ثم صعد وباشارة من يده طلب من صاحب الجلباب أن يواري الفقيد الثرى ففعل في ذهول ….. ثم تحول الرجل للحفرة الموالية ودفن كتابا ثانيا وبقي يبكي على قبره أكثر من نصف ساعة إلى أن شعر صاحب الجلباب بالحزن عليه فاقترب منه ووضع يده على كتفه قائلا: ارحم نفسك فوالله لم يحصل أن شعرت بالحزن مثلما أوجعني هذا التأبين …. فمسح دموعه في حرقة شديدة ثم تحولا معا إلى الحفرة الثالثة والأخيرة وهناك فتح حقيبته وأخرج أوراقا مبعثرة قام بترتبها وكفّنها كالعادة وخرّ على ركبتيه …كان منهكا و دموعه تبلل الأرض تحت قدميه…كان يشد على صدره الملتاع وهو يعلو وينزل كمن يحتضر فجرى نحوه صاحب الجلباب وساعده على الوقوف وطمأنه بأنه سيقوم بدفن أوراقه كما يريد. فنظر اليه موصيا : احذر أن تختلط عليك الأسماء …و هم بالمغادرة وكم أراد أن يعيد له المبلغ الذي تسلمه منه غير أنه رفض بإصرار شديد….أتم موكب الدفن الغريب بسرعة وانتبه في اللحظة الأخيرة إلى ان الميت الثالث دون إسم فجرى خلف الرجل ليسأله فوجده جثة هامدة. استبد به الحزن الشديد اذ لم يسأل عليه أحد رغم أنه بلغ عن حالة وفاة بولاية أريانة …مضت الأيام على غير عادتها بتلك المقبرة إذ شعر أنه تورط في تلك الكتب … أخرجها من قبرها وذهب بها إلى جاره وطلب منه أن يقرأها بعد أن أخبره عن حكاية ذاك الغريب وقد رحل وترك له هذه الحزمة من الأوراق…أمضى الجار ليالي طويلة يتصفح تلك الكتب وشعر بالحزن لأنه لا يملك المال لشرائها فطلب من صديقه أن يعطيها لرجل يعرفه له دراية بالروايات أكثر منه فقبل على مضض وبقيت تلك الكتب تتحول من قارئ إلى آخر …وكل من يصل إلى الصفحة الأخيرة من الكتاب الثالث يشعر بالقهر لأن صاحبه لم يعطه عنوانا قبل أن يموت….واستعاد صاحب الجلباب الطويل تلك الآثار . وتفشى السر وصارت تلك الكتب كنزا يعيره لمن يطرق بابه من عشاق الروايات بمقابل . ومضت سنة بأكملها و هو يجمع المال من القراء وكان همه الوحيد أن يتخلص من تلك الورطة…بنشرها…وحين سأله صاحب المطبعة عن العنوان الثالث أجابه بكل حزم: زائر القبور

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى