الناقدة التونسية هدى كريد تقول : الشّاعرة السورية رواء العلي تخط مفرداتها بنسيج صوريّ وجرس إيقاعي يصنعان بدائعها ويزفان ميلاد الشّعر على طريقتها فى قصيدة نامت الزنبقة
الناقدة التونسية هدى كريد تقول : الشّاعرة السورية رواء العلي تخط مفرداتها بنسيج صوريّ وجرس إيقاعي يصنعان بدائعها ويزفان ميلاد الشّعر على طريقتها فى قصيدة نامت الزنبقة


****************************
نامت الزنبقة
ما الذي أوجع الربي
في ساعة الخضرة
ما الذي أشعل نار الأفئدة
موجع قلبي
لما ذهبت عني
وبقيت غيوم الذاكرة
إني أحمل مصباحي
وأمشي في جميع الطرقات
تائهة بين كل الجهات
سائلاً المقبرة!!
سائلاً الشموس التي أخذت للنور
ما للنور مسكونة بتراتيل الشهداء
تقيم صلواتها في السماء
هناااااااك
تبتهل ذرى الفضاء
وجع !!
تختصره لغات الرثاء
عليكم سلام الله يا رمز
الكبرياء

تراتيل الغياب
حين تكون الكتابة إطلالة على مدارات الرّعب والفجيعة تتشكّل المعاني تغريبة وشتاتا وينزف الحرف على حواف القصيدة.وقد ارتسمت فيها ثلاث حركات متناغمة ناشئة عن تعالق بين الواقع والبنى اللغويّة.الأولى هي الخارجيّة التى يكون فيها الخارجيّ معادلاً موضوعيّا لما هو ذاتي كالزّنبقة والرّبيع والنّار .أمّا الثّانية فتتمحّض للذّاتي (موجع قلبي..تائهة ..).ولعلّ الثّالثة ترتاد الغيبيّ مفارقة المحدود تائقة إلى المطلق.(هناك).
وتبدأ الحركة الأولى ساكنة في قرارة النّوم .تتشكّل مجازاًً تتعالى فيه الصّورة على المعقوليّة عبر التّشخيص في نوم الزّنبقة ووجع الرّبيع.وتتّخذ رموز الحياة والطّبيعة (الرّبيع والزّنبقة ) تلك الّتي تنفتح على الأسطورة المترعة بالأمومة والعاطفة والخصوبة اتّحادا بعشتار.وتلوّنت بالقداسة ملتحمة بمريم العذراء أوالمسيح.رموز شتّى تحوم حول الزّنبقة رمزاً يتّصل بالموت وإن كنّى في الأصل عن الحياة.
وعلى وقع الوجع يتألّم الرّبيع لكي ينشأ تصوير خاصّ بالمرثيّة عهدناه عند الخنساء يكمن في الإسقاط النّفسي .غير أنّ النّص يتشكّل غالبا بلا حفر في ذاكرة الكلمات ،يصنع مساراته المخصوصة برمزي الاشراق والوجود الذّاويين محيلا على الرّاثي والمرثيّ باتّحاد الجوهر.إذ أنّ الأوّل بالضّرورة مسحوق بمرارة المحنة والثّاني مخلّد في عرف الكلمة تنشئ ما به يكون ،تسدّ فجوات العدم .هكذا هي الحركة الأولى في المابين خضرة وبهاء متّشح بالحياة من ناحية وحمرة نار تستعر ،حمم في الأفئدة على الجثث الهامدة من ناحية أخرى.
وتنشأ الحركة الثّانية داخل تغريبة الذّات المنحصرة حدّ التّلاشي في إيقاع بصري (وجع) تغزو ما بقي لها من فلول الذّاكرة الموجوعة بالتّغييب تستمطر غيومها فتسحّ المآقي.صور باهتة سعت إلى استحضارها.لأنّ لحظة الميلاد الشّعري تختزن ما تختزن من العذابات وتلاوين وجعها بل الوجع البشريّ مطلقاً.وتتشظّى الذّات أكثر من خلال الضّمائر، ضمير (هو) الرّبيع أو وجهها الماضي و(أنا ) أو المرأة الباكية ملمح الحاضر والآتي.هو الالتفات بلاغة علامة تختزل هشاشة النّفس والعالم .
وتتجذّر الدّيمومة بصيغة المضارع في مأساة الموت وتشرّد الرّاثية والإنسان ضياعاً في أصقاع وجود شائك بلا معين أو نصير.
ومن حركة ماديّة مسكونة بالقلق إلى أسئلة تتزاحم في خضّم حركة فكريّة عبر التّكرار اللّفظي سائلاً سائلاً والاستفهام المستنكر للرّدى يأتي على غفلة كقصيدة مداهمة بلا استئذان..وهنا تتورّط في قلق أكبر أوساع منزلة الإنسان المتدهورة.
نتوغّل معها في الغياب بما أنّ المفجّر للكلمة هو الحِمام،يحاصرنا أكثر فأكثر.و يزهق روح الزّنبقة رمز الوجود الأكبر.فتتعطّل كلّ مدلولات الألق والعبق كالرّبيع والمصباح والشّموس.لتصبح النّثيرة مرتعا للشّقاء .إذاً تصبح الذّات جوّابة مأساة مرتحلة في أقاصي الألم جنحت إلى الأقاصي داخل نفسها رغم رحابة المكان بواسطة المركّب الإضافي(جميع الطّرقات ،كلّ الجهات
ما عادت قادرة على احتمال العالم الأرضي فتعرّج في الحركة الأخيرة نحو السّماء.معراج جديد ،تنقّي به الشّاعرة كلّ الأدران وتحتمي بالقدسيّ قاتلة كلّ دنس،مشرعة كلماتها وصورها الشّعرية على العلياء.دفق نفسيّ تجاوز التّفعيلة في جموح الثّائر على كلّ القيود .رؤيا تنفلت من أسار المحدود نافذة إلى الغيب.والشّاعرة هاربة من موت تقاطر فيها إلى صفاء.فكلّما ضاقت سبل الأرض ناشدت السّماء .وكلّما حاصرتها أصوات الحرب الشّوهاء ،اشرأبّت إلى (هناك) مباعدة بين الآن وهناك لعبة بصريّة تتوزّع بين انحسار وامتداد .إحجام وإقبال يقودها المعراج إلى اليقين الذّي به تثلج الصّدور والسّلام الدّاخلي.هو التعزّي (سلام لروحها وروحه ) بعد أن تمزقّت أوصال الكلمة وشهقت شهقة الموت.إنّ الشّاعرة / رواء العلي ابنة سوريا الجريحة تقبع داخل محنة عصفت بالخنساء والحصريّ والرّثّائين عامّة.وهي و إن تشبّهت بهم أحيانا تخط مفرداتها بنسيج صوريّ وجرس إيقاعي يصنعان بدائعها في تلك الحركة المنذورة للضّياع .آذنت بوداع وزفّت ميلاد الشّعر على طريقتها