تأليف : الأديبة العالمية / نعيمة قربع (تونس الخضراء عاصمة الفنون والثقافة)
عرض : د. حاتم العنانى (المستشار الإعلامى للوكالة)”مصر – أم الدنيا”
يسعدنى أن أعرض ما كتبت الأديبة التونسية العالمية / نعيمة قربع (قصة قصيرة “شريط فيديو”) حيث تتميز الأديبة نعيمة بأسلوب متميز منقطع النظير فهى وليدة حضارتين (التونسية “أب تونسى” و الجزائرية “الأم جزائرية”) وإليكم العرض : –
صفّفنا الإرهابيّون في جوف الصّحراء .. فصلوا بين الرّجال و النّساء و الأطفال و ألبسونا لباسا موحّدا .. كانوا قد أحضرونا بطرق شتّى و بعضنا مازال مندهشا غارقا في صدمة المفاجأة .. فينا من اختطف من بيته و عائلته أو عمله أو مدرسته أو من الشّارع و فينا من حضر من تلقاء نفسه يسوقه الغباء و يقوده الفضول و رغبة حمقاء في العودة إلى ماض ” ساحر “.. بعضنا كذّب طويلا بوجود مثل هذه المعسكرات في عصر التّطوّر و القانون و الأنترنيت فلم يجد اليوم حتّى وقتا لتأنيب نفسه و التّحسّر و بعضنا كان يعرف بوجودها و يصدّق غير أنّه خيّر أن يدسّ رأسه في الرّمل و أن يتوهّم أنّ الشّرّ لا يصيب إلّا الآخرين الظّاهرين المكشوفين و أنّه يستطيع أن يقي نفسه بالتّواري و الجبن و الصّمت و الموقف. المهمّ أنّنا حضرنا وأحضرنا وعددنا أكبر من أن يحصى ولم تعد تلك التّفاصيل مهما كانت غريبة تثير أيّ قدر من الدّهشة أو الاهتمام …
سرعان ما أدركت أنّ بين الإرهابييّن أطبّاء و طلبة و مهندسي كمبيوتر وتصوير و أساتذة و خبراء في الاقتصاد و محلّلين سياسيّين و أخصّائيّين في كلّ المجالات إضافة إلى أصحاب أجساد ضخمة و أحزمة سوداء يشرفون على حلقات التّدريب على القتال و المصارعة وفهمت أنّ تلك الصّورة البسيطة المسطّحة للإرهابيّ و التي طالما نظرنا إليها من فوق و أشبعناها ازدراء واستخفافا ليست في الحقيقة سوى صورة مبرمجة بدقّة عالية و إخراج محكم من خبرائهم و مهندسيهم لتسويقها … و تأكّد لي أنّ كلّ حركة و خطوة و قول و فعل تتمّ برمجتها وتنظيمها و حتّى توثيقها و لا مجال لأيّ ارتجال أو صدفة أو سذاجة .. هو عالم مواز على درجة عالية من النّظام … حتّى تلك الطّرائف والصّور الكاريكاتوريّة عن الدّواعش والتي تداولناها ولهونا بها وأسالت دموعنا ضحكا كانت مبرمجة ومصنوعة بإتقان …
بعد لحظات طاف بنا أطبّاء و مساعدوهم .. حقنونا و سكبوا في الأفواه محاليل فماتت أصوات النّشيج الممزّقة التي كانت تعلو و تهبط و تزحف على بطن الصّحراء و خرست التّوسّلات و الأسئلة اليائسة المكرّرة المتناثرة و اختفت تماما نظرات الاحتجاج و انمحت كلّ آثار التّعبير من الوجوه … مفعول سحريّ للدّواء فقد تخفّفنا حتّى من أعباء الأفكار و المخاوف .. صار بإمكاننا أن نغادر أقفاصنا ندور حولها و نعود إليها و لم تعد تعنينا قضبانها .. أصبحنا أسرع استجابة للنّداء .. ننتظم ونصطفّ و ننفّذ ما يطلب منّا دون نقاش أو تردّد .. كما أصبحنا متشابهين جدّا .. نسخة واحدة مكرّرة .. موحّدي الملامح صامتين .. لا نتكلّم إلّا إجابة عن سؤال .. مطيعين وديعين كفئران المختبرات .. كدمى من المطّاط تعمل بالبطاريات …
غير بعيد عنّا انتصبت سوق صاخبة و البضاعة بنات صغيرات جميلات شقراوات و سمراوات ذوات شعور طويلة مرسلة فيهنّ كثيرات ممتلئات الجسم وجميعهنّ عاريات تماما و أولاد في سنّ المراهقة لم تنبت ذقونهم بعد ولم تخشوشن أصواتهم .. بشرتهم بيضاء و شعورهم ناعمة .. كانوا عراة أيضا … رأيتهم يجسّونهم وكأنّهم غنم و يلمسون أماكن حسّاسة من أجسادهم .. يتفاوضون وقد يتخاصمون حول أحدهم أو إحداهنّ و قد يتنازلون لبعضهم عن بضاعة ممتازة .. رأيت فتاة شقراء تخاصم فيها رجلان أعجبتهما فغضب سيّدهما من صراخهما و قطع رأسها بسرعة و خفّة منهيا نقاشهما .. تسلّلت نظراتي تقتفي أثر الإرهابيّ و هو يبتعد ممسكا بالشّعر الطّويل و الرّأس يتأرجح إلى جانب ساقه كأنّه كيس .. ألقى به بين الأشواك و كأنّه ألقى بحجر وعاد يمشي متمهّلا وهو يشعل سيجارة ويستمتع بدخانها … عندها أدركت أنّ الموت ليس وحشا و ليس مخيفا وأصبحت أتمنّاه …
إحدى مسرحيّات الصّحراء كان فيها رجال كثيرون يقفون في خطّ مستقيم يردّدون في نظام و رتابة أقوالا و اعترافات لقّنوهم إيّاها .. كببّغاوات مدرّبة ينهي الواحد منهم قولته فيتكلّم الذي يليه بلا إبطاء أو تلعثم بعد ذلك جثوا على ركبهم و جعلوا أيديهم وراء ظهورهم .. ألقوا برؤوسهم إلى الوراء قليلا و أصبحت ” تفّاحات آدم ” ظاهرة بارزة .. وراء كلّ رجل جاث وقف شبح أسود بيده سكّين كبير ذو نصل لامع … ثمّ كان فصل الذّبح في المسرحيّة حقيقيّا جدّا وبدماء حقيقيّة فوّارة شربتها رمال الصّحراء حدّ الارتواء …
كانت آلات التّصوير المتطوّرة تلتقط آلاف الصّور من كلّ الزّوايا و المختصّون يتناقشون حول خلفيّة المشهد و نوع الصّورة و إطارها و يتدارسون أدقّ التّفاصيل … خلتني داخل فيلم فراودتني أحلام العودة إلى الواقع الذي أصبح بعيدا جدّا.. مثاليّا و جميلا و متوازنا .. كأنّي غادرت الجنّة و ولجت جحيما .. كأنّه يوم حشر و عذاب بإخراج جديد و تصوّر مبتكر … و كأنّنا ذهبنا إلى بطن التّاريخ إلى جوف الماضي .. فلا أثر للبناءات حولنا .. فقط صحراء متوحّشة بلا قلب ولا شعور تشوينا بلذّة وتشربنا نخبا وتلهب جلودنا بسياط السّخرية … لا أرى من ذلك الحاضر البعيد سوى أشياء معدودة : الهواتف الذّكيّة و السّيّارات رباعيّة الدّفع والكامراوات و السّاعات الفاخرة في معاصم الإرهابيّين و سجائر المارلبورو في أفواههم …
نحن الآن و هنا أسرى .. عبيد .. أو ربّما مصابون بمرض غريب … يعيدوننا بالعقاقير إلى التّماسك و يشحنوننا بلاهة و هدوءا كلّما هممنا بالانفجار انهيارا وصراخا .. ألا يكون ما نراه مجرّد هلوسات و آثارا جانبيّة لدواء ما ؟..
نحن في قبضة الصّحراء.. داخل فيلم مروّع ..مأسورون و محشورون في شريط فيديو مهمل في أستوديو الأخبار الصغير .. يعبث بنا الارهابيّ هنا و يصوّرنا .. بينما صوت المذيع يبلغنا من هناك باردا محايدا لامباليا يقول بكامل الوقاحة إنّه لم يتسنّ بعد التّثبّت في صحّة ما ورد بالفيديو لذلك يعرضه بكلّ احتراز ناصحا ذوي القلوب الضّعيفة بالامتناع عن المشاهدة وبإبعاد الأطفال عن مثل هذه المشاهد العنيفة كما تبلغنا أصوات مكذّبة محتجّة على منظر الدّماء والرّؤوس المقطوعة ومطالبة بتغيير المحطّة …