قصة(لقاء حميم) للأديبة التونسية المبدعة / نعيمة قربع

قصة(لقاء حميم) للأديبة التونسية المبدعة / نعيمة قربع

طرق الباب ذات مساء .. أغرتني وحدتي و الدّفء القليل أن أتجاهله فلست أنتظر أحدا .. و قد يكون الطّارق زائراً ضلّ عنوان من يقصدهم أو جارا يسأل حاجة … تكرّرت الطّرقات .. أصبحت قويّة سريعة تصرخ بالإصرار.. علا صوت فضولي ففتحت .. ارتمت بين ذراعيّ تقبّلني.. تحضنني .. تتمسّح بي و تشمّ ريحي .. تخفي رأسها في صدري .. كأنّما تريد أن تبلغ قلبي و تقبّله ..

تدور حولي و تلتصق بي كقطّة حنونة … ألقيت بدهشتي بعيداً و انخرطت معها في عناق طويل .. التفّت حولها ذراعاي بقوّة .. بلهفة من وجد كنزاً و لم يصدّق .. اختلطت دموع الشّوق بضحكات الفرح … كنت يئست من لقائها و لم أكن أتوقّع رؤيتها حتّى صدفة و إلّا لما كنت حزنت كلّ ذلك الحزن عليها .. لكنت عشت على انتظارها و عددت الأيّام بلا ألم .. لكنت انشغلت بانتظار هذا العناق.. لكنت تسلّقت جبال الأسى بلا وجع و صرفت الوقت في عدّ عيون الشّوق المتفجّرة .. لكنت انتظرت هذه اللّحظة و كفى … فرحت جدّاً أنّها تذكّرتني ووجدتني .. أنّ الحنين فعل بها ما فعل بي و أنّ الشّوق أضناها كما أضناني .. عاتبتني طويلاً على استسلامي للغياب .. غارت من وحدتي و اتّهمتني بالنّسيان .. قلت لها اضطرّني إليها الحزن و لأنّي حسبتها ماتت أدمنتها و سأقلع عنها  بها … أدخلتها بيتي .. تجوّلت فيه .. عاينت ضيقه ووحشته .. شقّة صغيرة معلّقة في الطّابق السّابع في عمارة آيلة للسّقوط بلا مصعد كهربائيّ و لا تدفئة .. أرضيّتها رخام قديم مكسّر و جليز بهت لونه و مسحت أشكاله آلاف الأقدام التي داست عليه .. أثاث قديم و جدران بلا ألوان و نوافذ بلا أفق …

عادت إليّ .. جلست إلى جانبي و وضعت رأسها على حجري .. طالبتني بكلّ الحكايات القديمة .. كلّ الذّكريات تريدها بين يديها .. و كلّ أشواط الشّوق و مسافات الحنين تريدني أن أقيسها … رجتني بعد ذلك أن أقبل بها في بيتي و ألّا أفرّط فيها .. ألّا أتعلّل بشيء .. و ستطلع معي كلّ يوم الدّرج المكسور  و تحمل عنّي أكياس همومي الثّقيلة .. وعدتني أن تنسيني وحدتي حتّى كأنّي لم أدمنها و أن تدفئ بردي .. و ستحضر النّسمات صيفاً و تصفّفها نسمة نسمة لزيارتي و الرّقص بين يديّ .. ستجعل نهاري حديقة و بيتي جنّة .. وعدتني أن تكون رفيقتي حبيبتي .. أن تشبعني حبّاً و تطفئ ظمأ قلبي و تروي تربة روحي المتشقّقة .. أن تتسرّب بين أصابعي كماء بارد رقراق صاف في يوم قيظ .. أن تنساب بين يديّ كجدول لا يتوقّف حتّى يبلغ البحر – المحيطات جميعها .. أن تجعلني أمتطيها و تحلّق بي كحصان الأساطير المجنّح .. تبلغ بي شواهق الأحلام أن تفتح لي بوّابات الأمل كلّها .. و تسقيني من عين الحبّ حتّى أثمل .. أن تقف بي على حافّة العالم و أطلّ منها بها على نهر الفرح .. وعدتني أن تكون عصاي أهشّ بها على أيامي الكئيبة و تسند شيخوختي القريبة و تدفع عنّي أذى الأفاعي النّاهشة …أقسمت لي أنّها لن تتعب منّي أو تملّ و لن ترهقها خدمتي .. أن تدعني أشربها حتّى الثّمالة و أن تسري في عروقي …

و هي لا تريد شيئاً لنفسها في المقابل غير أن أعالجها .. أضمّد جراحها و أرتّب فوضاها .. تريدني أن ألملم آلامها و أضعها في درج النّسيان .. أن أنظّم أشلاءها و أجمع شتاتها .. ببساطة .. تريدني أن أهتمّ بها .. أن أعشقها نصف عشقها لي .. أن أحفظ حبّها عن ظهر قلب و أن أقسم لها بيمينه كلّ يوم .. و ألّا أصدّق أنّها أصيبت ذات يوم بالرّصاص و ماتت …

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى