رواية”بغداد و قد انتصف اللّيل فيها “

رواية"بغداد و قد انتصف اللّيل فيها "

“بغداد و قد انتصف اللّيل فيها ” (مقطع من الفصل الأول من الرواية)

الأديبة / حياة الرايس

 

تتخلّلني الإشارة ،حاسمة ، بما لا يدع خطا للرّجعة. يشقّ صوت المذيع الرّخيم،”رشدي عبد الصاحب”، قلب اللّيل إلى شطرين و ينشطر قلبي معه. في لحظة فاصلة تنقل حياتي بجملة واحدة من زمن إلى زمن و من بلد الى بلد .هل كان المذيع يؤرخ للحظة فارقه في حياتي ؟ هل كان يكتب بدلا عنّي تاريخ مستقبلي؟ أنا المعلّقة بين فضاءين. أتأرجح على حافة الزّمن .أحاول أن أتماسك لكي لا أسقط في مفارقة اللّحظة . و أن أستجمع طرفيْ الزمن في كفّي . مأخوذة بشهوة الأجنحة، نجمة مغامرة في هذا اللّيل التائه. أفتح خطّا في الأفق و أعد نفسي بأجمل صبح ينتظرني.

مازال صوت المذيع ، عبر الأثير، يرّن في قاع أذني، فاصلا بين حياتين وقدرين: بين تونس وبغداد. بين ماض، في تونس تُوّج بنجاحي في شهادة الباكلوريا آداب. و لم يحقّق لي رغبتي في التّوجيه الجامعي. كنت أريد قسم الأدب العربي فإذا بهم يوّجهونني إلى قسم الأدب الفرنسي . ولم أجرب حظّي وحقّي في إعادة التوجيه مرّة ثانية. فكأنّما كان ذلك تعلّة ومبررا ، لأطير خارج البلد ،وأحلق عاليا.. فقد كنت أريد أكثر من الشهادة .كنت أريد أن أغيّرحياتي كاملة وأعيش تجربة جديدة. وما قصّة التّوجيه سوى شماعة .

و بين مستقبل لا أعرف عنه شيئا سوى أنّني جئت إلى بغداد للدّراسة الجامعيّة. لا أملك إلاّ حفنة أعوام لم تتجاوز العشرين: طريّة، نظرة، مشحونة، مجنونة بحبّ المغامرة و السّفر…والشّغف بمصير جديد أحسب أنّني سأصنعه بيديّ ، غير الذّي كتب لي وولدت و نشأت عليه .

” بغداد و قد انتصف الليل فيها “

كالعلامة التّي تسبق ضوء المسافات، تفتح بالّلغة منارة و طريقا… أفترش حروفها حريرا وثيرا ورنّة مُمَوْسقة في رخاء اللّيل … وأستلقي رافلة ، في أرض المتنبّي و التّوحيدي و الجاحظ ببيانه و تبيّينه فتتبدّد غربتي . من قال أنّني أهاجر من بلد الى بلد ؟ لست أقيم سوى في اللّغة و أسكن بين الحرف و المفردة و أتوسّد الجملة و أتبسّط وسع الفواصل والنقط…؟

 

الأديبة / حياة الرايس (تونس – فرنسا)

(مؤسس ورئيس رابطة الكاتبات التونسيات)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى