قصة عناية .. للدكتورة هالة مهدى
قصة عناية .. للدكتورة هالة مهدى

د. هالة مهدى (تونس)
كان سالم يعالج قارورة الغاز عندما طلبت منه زوجته عناية أن يحضر لها منشفة. ترك القارورة وذهب مسرعا إلى الغرفة لجلب ما أرادت، لكنّه تعثّر في الكرسيّ الرابض قرب باب الغرفة فسقط سقوطا عنيفا.
سمعته عناية يصيح فهرعت عارية نحو الغرفة تستطلع الأمر، وإذ بزوجها سالم يغرق في بركة من الدماء، فقد أصيب في رأسه بفعل ارتطامه بالأرض.
أسرعت عناية إلى خزانة الملابس وارتدت أول فستان نوم خفيف وضعت عليه يدها، وحاولت أن توقف سالم لتجلسه فوق الكرسيّ لكنه كان أثقل من أن تتحمّله. هرعت نحو منزل جارها عمر المحاذي لمنزلها في العمارة في الدور الثالث،
دقّت الباب بطريقة هستيريّة. فتح عمر الباب، فوجئ بملابسها الشفافة بادئ الأمر، لكنه رأى اضطرابها وعلم بالمصيبة. دخل معها إلى شقّتها – وكان يفعل ذلك لأوّل مرة مذ سكن في شقّته- وحاول جاهدا مع عناية أن يحمل سالم.
كان سالم في شبه غيبوبة تقريبا، اتصلت عناية بالإسعاف وفي الأثناء اشتمّ عمر رائحة الغاز، اتجه مسرعا نحو المطبخ، ولحقت به عناية، أغلقت هي قارورة الغاز وفتح هو النافذة بسرعة خشية أن يحصل انفجار.
في الأثناء كانت جارتهم سناء واقفة في شقتها المقابلة لنافذة المطبخ، صُدمت لمرأى عمر في الشقّة وإلى جانبه عناية بملابس النوم الخفيفة، لكن عمر لم ينتبه إلى وجودها ولو انتبه لما أعارها اهتماما.
ترك النافذة مفتوحة حتى تخرج رائحة الغاز وعاد مسرعا نحو الغرفة ومعه عناية. قبعت المسكينة إلى جانب زوجها تبكي وتتضرّع إلى الله أن يخفف من ألمه إلى حين قدوم الإسعاف لائمة نفسها على نسيان المنشفة قبل دخولها إلى الحمّام. مرت نصف ساعة، وقدمت سيّارة الإسعاف، وتجمّع أهالي العمارة تحتها لاستطلاع الأمر.
صعد المسعفون إلى الدور الثالث وحملوا سالم على سرير الإسعاف ونزلوا بسرعة عبر المصعد ومعهم عناية – وكانت قد غيّرت ملابسها- وهي تصيح وتولول. في المستشفى – وبعد مرور ستّ ساعات داخل غرفة العمليّات- أعلموها أنّ زوجها قد توفّي لأنه تعرّض إلى كسر في الجمجمة ونزيف داخليّ حادّ بسبب قوة الارتطام، لم يستطع الطاقم الطبّي إيقافه.
انهارت عناية وفقدت وعيها داخل المستشفى ولم تستفق إلا بعد مرور يومين على الحادثة وقيام أهل زوجها بدفن سالم. لمّا فتحت عينيها داخل المستشفى، لم تجد إلى جانبها أحدا، صاحت بصوت واهن ضعيف: – أين سالم؟ أين زوجي؟ يجب أن أراه قبل أن يُوارى التراب…
نهضت من فراشها واتجهت صوب الباب، انتبهت إلى وجود شرطيين واقفين إلى جانب باب الغرفة التي تنام فيها. انتبها إلى وجودها فأمراها بالعودة إلى فراشها. قال لها أحدهما: – عودي إلى فراشك ولا تغادريه إلى حين استكمال التحقيق، سوف ندعو المحقّق للحضور الآن ما دمت قد عدت إلى وعيك. أجابت عناية باستغراب: – عن أي تحقيق تتحدّث؟ لا بدّ أن آخذ زوجي من هنا للبدء في إجراءات الدفن. ردّ الشرطيّ الثاني بلهجة ساخرة: – عودي إلى فراشك فلن ينفعك تمثيل دور العفيفة… أصيبت عناية بالذعر: عمّ يتحدّثان؟ وأين زوجي؟ وأي تمثيل؟ اتركوني أخرج من هنا…
صارت تصيح بصوت مبحوح لكن ما من مجيب ولا من مغيث، بحثت عن هاتفها لتتصل بوالدتها لكنها لم تجده. طلبت منهما بإلحاح أن يتركا لها مجال الحديث مع أحد أفراد عائلتها لكنهما رفضا ذلك إلى حين استكمال التحقيق… وعن أيّ تحقيق؟ تحقيق في شبهة قتل مع سبق الإصرار والترصّد بمساعدة عشيقها الذي يقبع داخل السجن…
هكذا أخبراها قبل أن تعود قسرا إلى فراشها… صاحت عناية: – قتل من؟ وخيانة من؟ وعشيق من؟ لم يطل انتظارها، فقد وصل قاضي التحقيق. حاول أولا أن يهدّئ من روعها قائلا: – سيّدة عناية لا بدّ أن تهدئي حتى نستطيع استكمال التحقيق. صاحت عناية في وجه المحقّق قائلة: – أي تحقيق؟ كيف أبقى هنا وزوجي ينتظر الدفن؟ لا بدّ أن أخرج من هنا في الحال. أجابها المحقّق بهدوئه القاتل قائلا: – لقد تمّ دفن زوجك بعد عمليّة تشريح جثّته مباشرة، فمن الواضح أنّ الضحيّة قد توفّي نتيجة ارتطام رأسه بشيء صلب وقد شهدت جارتك سناء بأنّك شريكة جارك عمر في عمليّة قتل الضحيّة وأنّ بينكما علاقة غير شرعيّة مثبتة بالصور التقطتها الشاهدة من منزلها يوم الجريمة، وقد تمّ القاء القبض على جارك عمر يوم الحادثة لكنه أنكر التهمة الموجهة إليه، وصار لا بدّ أن نأخذ إفادتك قبل إيداعك السجن.
انهارت عناية، ولمّا استفاقت من غيبوبتها وجدت نفسها تقبع وراء قضبان السجن، وقد هجرها أهلها بعد علمهم بجريمة الخيانة. ومرّت عشر سنوات داخل السجن خرجت إثرها بعد تخفيف في الحكم نتيجة حسن السيرة والسلوك. اتجهت نحو شقّتها. علمت من الجيران أن جارها عمر قد خرج كذلك من سجنه منذ أيام وترك شقّته في اتجاه غير معلوم…
دخلت شقّتها وفتحت جميع النوافذ، ولمّا فتحت نافذة المطبخ المقابلة لمنزل جارتها سناء، لمحتها وإلى جانبها رجل غريب، لم يكن زوجها الذي تعرفه، كان شخصا آخر. فتّشت في بقايا ذاكرتها عن صورة ذاك الرجل، تذكّرت قاضي التحقيق الذي أخذ إفادتها يوم كانت في المستشفى قبل عشر سنوات.
د. هالة مهدي،
دكتوراه في الأدب العربي
النشاط :
الدراسة النقدية
قراءة شعرية نقدية لكتاب كليلة ودمنة
صاحبة المجموعة القصصية بائعة الياسمين