قصة من الظلمات إلى النور .. لعنقاء تونس الأديبة القاصة / ميساء بنت ميم (كفيفة كلماتها تنير الكون)

قصة من الظلمات إلى النور .. لعنقاء تونس الأديبة القاصة / ميساء بنت ميم (كفيفة كلماتها تنير الكون)

بقلم / ميساء بن ميم (عمرها 12 عام)

دخل قاعة الانتظار شيخ ذو وجه تكسوه تجاعيد كثيرة كأنما جُعِلت لتُظهر الأثر الذي تركته العقود السبع في جسده المترهل، ونظرة عينيه الذابلتين الخابية، وجبينه المتغضن ،وشعره الثلجي من المشيب، ولحيته الصهباء التي استرسلت على صدره. ودليلا على ضعف بصره بسبب مرض السكري كانت عيناه متواريتين خلف نضارة تساعده على الرؤية . وكان يسير لاهثاً ويتنفس بصعوبة من الإرهاق وطول المسير، يتوكأ على عكاز بيده اليمنى ويستند بالأخرى إلى كتف شاب ذي بشرة عميقة صافية، تزين وجهه عينان سوداوان، تحتهما أنف مستقيم، وذقن حليق. كان في الخامسة أو السادسة والعشرين يمتلئ صحة وعافية بيد أن نظرة عينيه تنطق بحزن دفين تحت ركام اليأس والهموم في قلب محطم. جلسا على مقعدين متجاورين ويبدو أن الشيخ قد أنعشته النسمة الباردة المنبعثة من المكيف بعيادة الطبيب النفسي فقد تنهد في ارتياح وأخرج من جيبه علبة سجائر وأشعل واحدة وجعل يدخنها بلذة فنظر إليه الشاب بعد أن رشف رشفة من كوب القهوة الذي كان يمسكه بإحدى يديه وسأل: “ألا تقلع عن التدخين يا جدي؟ صحتك لم تعد تسمح بذلك” سعل الشيخ وأجاب بعد أن ابتلع ريقه : “ما زلت على قيد الحياة لم أمت بعد ثم أن صحتي أفضل من العشرات ألم تسمع أن الحاج محمد النجار قد شل وأن الشيخ عبد الله إمام المسجد قد ارتفع ضغطه وهو الآن في عيادة الدكتور للفحص و… “دعنا من هذا المهم صحتك أنت” ساد بينهما صمت قطعه الرجل بقوله: “لماذا لا تقلع عن استهلاك المخدرات؟” رد حفيده بلهجة من لا يريد الحديث في هذا الموضوع: “دعنا من هذا، سيخبرنا الدكتور بالدواء” لم يرد الشيخ وأطبق الصمت على القاعة فلم يعد يسمع سوى صوت المكيف وهو يرسل نسماته المنعشة في كل مكان، وصوت التلفاز الخافت في ركن من أركان القاعة التي صفت الكراسي على جانبيها في صفين متقابلين،

وأول ما يواجهك إذا دخلت على اليمين مكتب الكاتبة وقد انكبت على الحاسوب تعد ملفات المرضى أو تسألهم عن أسمائهم وأرقام هواتفهم. قطع الصمت صوت رنين الهاتف القار الموضوع على طاولة صغيرة مستديرة فقامت من مكتبها ورفعت السماعة وحددت موعدا لإحدى المريضات ، بينما كان الشيخ يقرأ في جريدة بين يديه ثم عادت الكاتبة إلى مقعدها وعاد الصمت من جديد كأنه ضيف غادر البيت ثم نسي شيئاً فعاد ليأخذه.

امتد الصمت عشر دقائق تقريباً ثم قالت الكاتبة: “السيد أحمد تفضل الدكتور خالد في انتظارك” فقام الشاب وهو يقول: “جدي امكث هنا حتى أخرج” ثم سار تتقدمه الكاتبة ففتحت الباب وأخبرت الطبيب بحضوره فأذن له بالدخول ثم أغلق الباب وسأل: “كيف حالك يا أحمد؟” “الحمد لله” قال ذلك بفتور فسأل الدكتور مرة أخرى: “ما لك؟ تتحدث بفتور هكذا؟” تنهد وأجال بصره في الحجرة برهة وركزه على المكتب المثقل بالأوراق ثم رفع عينيه إلى الطبيب وقال: “الحق يا دكتور أني…” وأحس بجفاف في حلقه وخشي أن يخبر الدكتور باستهلاكه للمخدرات “لكن الدكتور كفاه مؤونة الخجل بقوله: “أفصح عما في صدرك، لا تخف أنا طبيب ومن واجبي حفظ أسرار المرضى وما ستقوله سيظل طي الكتمان.” أكمل الشاب قوله بارتياح ظاهر: “أنا يائس جدا مما دفعني إلى استهلاك المخدرات” قرّب الدكتور كرسيه من المكتب وقال: ” ما سبب ذلك؟” فرد وهو يتنهد بعمق: “البطالة هي الآفة الكبرى التي أعاني منها يا دكتور فجعلني الفراغ واليأس من التشغيل أفعل ما أخبرتك به منذ حين.”ما هو تخصصك؟” “اللغات” قال وفي صوته نبرة تعجب لم يحاول إخفاءها: “عجيب أن لا تجد عملاً ” “لم أحصل على دكتوراة أنا من أصحاب الشهائد العليا فقط ، تخصصي لغة إنجليزية.” “أنت مثقف إذاً لماذا تستهلك المخدرات؟” ظهر الحزن على وجهه وأسند رأسه إلى كفه ولم يجب فسأل الدكتور:”لماذا لا ترد؟” انتبه إلى نفسه فرفع رأسه وتنهد بعمق ثم اعتذر قائلاً: “عذراً دكتور خالد جرفني تيار الأفكار.” “في ماذا تفكر؟” “في المستقبل” ثم أردف وقد ازدادت نبرة الحزن عمقاً في صوته الهادئ: “أنا يائس يا دكتور أحس بأني عالة على عائلتي عقدواً على تخرجي آمالاً عظيمة لكن لا شيء من هذا يتحقق، صبرت سنة كاملة ولا شيء يتحقق” ضحك الدكتور ضحكة قصيرة وقال: “سنة أتحسب أن هذا كثير؟ غيرك انتظر عشر سنوات وأكثر” قال معللاً يأسه المبكر: “ولكننا عائلة فقيرة يا دكتور أبي موظف صغير في إحدى الإدارات يتقاضى سبع مائة دينار شهرياً وله أربعة أبناء وزوجة كما أن جدي وجدتي يعيشان معنا ويساعدان بقدر استطاعتهما أو على الأصح بالمائة وخمسين ديناراً التي تصرفها الدولة إلى المسنين والبيت الذي نسكنه مستأجر وإضافة إلى هذا فواتير الماء والكهرباء ونفقات المعيشة وأمي لا تشغل. سأل الدكتور بهدوء: “وبما أنك فقير كما قلت لماذا تستهلك المخدرات فتساهم في زيادة نسبة الفقر في العائلة؟” ارتبك الشاب لحظة ثم أجاب وقد تورد وجهه خجلاً وقال: “ال… المخدرات هي السبيل الوحيد للهروب من هموم الحياة إلى عالم آخر حافل بالسعادة الخالصة عالم لا هموم فيه” “أكُلُّ هذا بسبب يأسك؟” “نعم يا دكتور ،لا بصيص أمل يضيء مستقبلي مللت الانتظار وتقديم المطالب إلى الحكومة يوماً بعد يوم ولا حياة لمن ينادي” سأله مباغتا: “من أين لك بثمن المخدرات وأبوك فقير؟” ظهرت على وجهه علامة التفاجؤ فقد باغته السؤال ثم أجاب: “نشتري المخدرات سراً يدفع أصدقائي الثمن” ضرب كفاً بكف وهو يقول: “آه ما أكثر أصدقاء السوء هذه الأيام، ألم تجد خيراً من هؤلاء المستهترين تصادقهم؟” “إنهم زملائي في المعهد كانت علاقتي بهم سطحية وتوطدت بعد تخرجي” “أَدفعهم نفس الدافع إلى استهلاك تلك المادة البغيضة الغاوية للشباب؟” “منهم من انقطع عن الدراسة ومنهم من جعلته البطالة مثلي يستهلكها ومنهم من أدمن عليها أما أنا فلا أتعاطاها إلاّ مرة كل أسبوع” “إذا إلغاء استهلاكها سهل لكن قلي هل أصِبتَ بمرض ما؟” “كلا يا دكتور إذا كنت تقصد الأمراض الجسدية، لكني مريض نفسياً باليأس والخوف من المستقبل المظلم الذي ينتظرني والملل من طول الانتظار” ثم أضاف وهو يحرك ساقيه من شدة العصبية من تأثير المخدرات والغضب المكتوم: “أحس أني سأنفجر أتعرف يا دكتور إني حاولت الانتحار؟” ظهرت الدهشة صريحة على وجه الدكتور وقال: “كل هذا لأنك انتظرت عاماً دون أن تشتغل. ألا تؤمن بالله كيف تنتحر أو تحاول الانتحار؟” “يا دكتور عائلتي متكونة من ثمانية أفراد ونحن فقراء والبطالة والملل واليأس يقتلونني كل يوم ألف مرة حتى في الأوقات التي أستهلك فيها المخدرات أحس بأنه لا دور لي في المجتمع فلماذا أوجد إذاً؟” ثم بسخرية مريرة: “إذا كنت وُجِدْتُ لاستهلاك المخدرات فأنا لا أؤدي هذا الدور إلا مرة في الأسبوع.” دفن الطبيب وجهه في الملف متظاهراً بالقراءة حتى لا يَرَ الشاب ابتسامته الخفيفة ثم رفع رأسه وتناول قلما وأخرج من الدرج ورقة ثم جعل يكتب ويقول: “بطالة، مرض نفسي، يأس، استهلاك مخدرات، خوف من مستقبل مظلم، ملل، كره للحياة، ومحاولة انتحار هذا كثير وسيؤدي ما تفعله إلى إدمان على المادة التي تتناولها مما سيساهم في تعكر صحتك الجسدية والنفسية وإصابة بأمراض خطيرة جداً ولن تستطيع بعد ذلك العثور على عمل.” أنا أستهلك المخدرات لأنه ليس هناك بديل” قال معترضاً وهو يضع القلم على المكتب: “بل هناك” أحس بنظرات الشاب المتلهفة للحل تتوالى إلى وجهه الباسم فقال: “اقرأ كتباً، شارك في نوادٍ رياضية والأهم من كل شيء أن تنْسَى الخوف واليأس والملل ثم قام وهو يقول سيأتي الفرج إن شاء الله”

نهض الشاب أيضاً وغادر الاثنان حجرة مكتب الطبيب ثم نظر الدكتور إلى الشيخ الجالس وقال: “أنا في الخدمة ” وحين لاحظ نظراته المتسائلة قال: “العلاج سهل: يجب أن يعمل بنصيحتي وينفذ ما قلته له ،المهم أن لا يستهلك المخدرات فهي على عكس ما يَضُن تزيد في توتر أعصابه وتهدد حياته وصحته” حيياه ونقدا الكاتبة الأجرة وغادرا العيادة.

في اليوم التالي ذهب أحمد إلى النادي الرياضي أمام إلحاح جده فاستهوته كرة القدم وداوم على ممارستها ولم يذهب إلى أصدقائه. وحين عرفوا أنه في نادي الرياضة اتخذوا منه مادة للسخرية لكنه ما لبث أن جذبهم إلى النادي أيضاً وأسس الشبان الستة بعد سنة نادياً ثقافياً وخصصوا قسماً ترفيهياً منه للرياضة بمختلف أنواعها يستقطب الشبان ليخرجهم من ظلمات اليأس والمخدرات إلى نور الثقافة والمستقبل المزهر وكتبوا لافتة عليها شعار: “المخدرات داء لا دواء”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى