من رواية اعترافات نيسابا .. للأديبة / هدى كريد
من رواية اعترافات نيسابا .. للأديبة / هدى كريد

الأديبة / هدى كريد (تونس)
ابتسمت رغم كلّ شيء. أنظر إلى حلمي بشغف. وجدت نفسي في نقطة تجاذب بين قوّتين، الأمومة المحمومة وفوران عاطفتها والخوف، نعم خوف على الطّفل المرتقب من غوائل الأيّام وحيوانيّة الإنسان وغرائزه المدمّرة. مخالب الهمجيّة تنشب في الأشلاء. صداعنا مزمن. أهتزّ. إنّنا هنا داخل النّفايات، نغوص في مستنقع الرّذيلة. كنت موزّعة كما لم أكن يوما في حياتي. كيف أتخطّى آلام الغربة فيّ. لقد وصلت إلى منافذ سدّت.. لسنوات خمس وأكثر، لم أكن قريبة إلى نفسي أو إليهم. وجع بعيد الغور، أجهز على بقايا الحلم الشّهيّ. رأيت نثار الحمامة والدّماء على الياسمين الملوّث بأيدي القتلة. رأيت الأسمال البالية على الأجساد القذرة يأكلها الذّباب في مخيّمات اللاّجئين. تحوّلت أهازيجي إلى نوح. الطّائر المهيض الجناح يختلس فتات القوت من مغازة متوحّشة. وفي ظلّ الفقر يبكي مقهورا.. الطّفل الذي تخيّلته لاهيا، يفلت من يدي في زحام الحياة ويضيع في غياهب المستشفى. وتزكم أنفي رائحة الأدوية النفّاذة وعطن العدم. والمصابون بداء النّصف الأسفل، كم أخشى على صغير أو صغيرة ممّن تردّى في وهدة الحيوانيّة. قرفي يكبر من الإنسان كلّ لحظة. مدينة الأنقاض جعلتني نسيا منسيّا.. كانت حياتي مشرعة على كلّ الاحتمالات. اختليت بذاكرتي طويلا. وأمسكت بتلابيبها. هي هويّة أضعتها في محارق الزّمن. والآن لا حلم ولا ذكرى. أسير مجرّدة من كلّ شيء.. سوف أصير ما تشتهي الحياة. هذه الأرض صحراء قدرها الماء الأجاج. جغرافيّة منكوبة وتاريخ موجوع مستباح. وعلى كلّ واحد أن يدفع ديّة البقاء.. كلّما قرأت كتابا عن السّجن أصطلي سعيرا. لم كتبوا أدب السّجون؟ من شرّعه؟ تتضاعف المأساة حين يتوهّج وعينا بها.. وأنا وإن لم أدرك معنى العبارة بدقّة أستشعرها، أحمل السّجن داخلي. أحسّ ضيقه متى تعطّلت لغة السّاعة وتكدّست الأحزان فوق بعضها. يحاصرني عندما لا أمارس انقلابي المشروع على الحاجة. أكون سجينة حين يجندل خيالي وتكثر ندوبه. ألتحم بهويّة السّجين ما حاصرني القلق أو الأرق. كم من مرّة انتفضت مذعورة من غفوة… وكانت دقّات السّاعة الحائطيّة ترجّ جسدي المترهّل.. زئير الألم يتعالى أكثر وصخب الشّارع يصمّ الآذان.. عواء هذه المجنونة ينبثق فجأة في صفاء السّكون فيفسد كلّ شيء.. الحقّ أنّي لا آكل كثيرا ولكنّ المعدة متعبة على مرّ السنين. تكلّست فيها القهوة حتّى ضجّت وصارت تقذف بين الفينة والأخرى ما تلفظه. وكثيرا ما تلقي بنفاياتها فأمضي ليالي سوء.. حين كنت صغيرة كنت نحيفة جدّا ولم تكن المعدة عجوزا.. كانت مثل صاحبتها فتيّة. ما أعجب فعل الزّمن نريده رخيّا فلا ينشرح.. جدران السّجن لا مرئيّة والعبور مستحيل أمحوها على الدّوام لأكون قيد الحياة و قابليّتي للأحلام لم تمت.كل الهموم تباغت والأحلام تتّحد أيضا بالمباغتة الجميلة..يبقى فضلنا احيانا في الخروج من الظّلال الخانقة.نستعير طاقيّة الإخفاء.نستشعر رحيقها في لحظات وجود غير مؤمّنة.الجنون يحفظ نصاعة في افجارنا الجوريّة.قد لا يتغيّر شيء..المهم أن أن تتشظّى الأحزان حدّ التّلاشي.اظلّ غيمة مباركة وتظلّ هي وجه أديم الأرض المزهر والفرح المرتبك أو الواثق. مرّ بذهني جنوني.تدرّبت طويلا على على ما أشتهيه..لا أخفيه.نواميس العقل قاتلة بارعة في إزهاق أرواح الاحلام وحبك فصول التّراجيديا .. تتساقط الطّيور الجرحى تنتظر رذاذ المطر.أرى الأشلاء اصرخ في وجه الكدر لا تعنيني كلّ قنابلك الموقوتة أعود إليّ يهزّني دوار الاعماق..لم يكن في نيّتي أن اغيب ..لا أريد أن أحمل لعنات الكوابيس. لا يمكن لامرأة مثلي أن تضع خوفها بين أيدي الغرباء ولا تنذر للأوفياء حزن كلّ اللّحظات ..رهينة أنا لعالم مستعار..