محاكمة إفتراضية للسلطان صلاح الدين الأيوبى

محاكمة إفتراضية للسلطان صلاح الدين الأيوبى

د. حاتم العنانى (القاهرة)

 

على مرّ العُصور ظهرعظماء لعبوا أدواراً عظيمة صنعت أمماً وحضارات، وخَلَّدهُم التاريخ، لِما حملوه من رسائل سامية هَزَّت كيان البشرية جمعاء .
لقد كان صلاح الدين شخصاً أسطورياً له سمات كاريزمية أثارت إعجاب كل المحيطين به، فقد كان بطلاً قاد الجيوش وحقق انتصارات تاريخية لم تتكرر.
حيث قاد عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر، وتهاوت المدن والقلاع الصليبية، وتساقطت في يد صلاح الدين؛ فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت وغيرها، وأصبح الطريق ممهداً لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل صلاح الدين المدينة السليبة في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يوما مشهوداً في التاريخ الإسلامي.
اشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحاً ظاهراً في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام .. صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماماً ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.
المحاكمة:
القاضى: أنت صلاح الدين الأيوبى ؟
صلاح الدين: أنا السلطان صلاح الدين الأيوبى
“وبدأ استجواب الأيوبى”
القاضى:
التهمة الأولى المنسوبة إليك:-
أنت متهم بأن هجومك على الصليبيين وعملية تحرير بيت المقدس كان سببها هو قتل شقيقتك على يد جند رينو دي شاتيون أثناء هجومهم على قافلة الحج وقتل كل الحجاج المسلمين وهم في طريقهم للحجاز مما تسبب في معركة حطين.
صلاح الدين:
هذه المسألة في مجملها ليست صحيحةً تاريخياً، فلم يكن هجومى على الصليبيين وقهرى لرينو دي شاتيون، في معركة حطين بسبب قتل شقيقتى ولا بسبب رينو دي شاتيون، لأننى أصلاً كنت على حرب من قبل ذلك بكثير، فهجومى على حصن الكرك لم يكن بعد مذبحة الحجيج فقط، فقد هاجمته قبل مذبحة الحجيج بعد أن خرق رينو دي شاتيون معاهدتى مع ملك مملكة بيت المقدس، كذلك فإن أختى لم تقتل في قافلة الحجيج أصلاً، فهجوم رينو على قافلة الحجيج كان في العام 578 هجرية، وأختى كانت في القافلة وأسرت ثم رجعت مع من رجع من الأسرى ، ثم ماتت سنة 616 هجرية
الدفاع:
التأكيد على أن سبب تحرير بيت المقدس هو غضب صلاح الدين لقتل أخته مصدره فيلم Kingdom of Heaven “مملكة الجنة” وليس كتب التاريخ، وأخت صلاح الدين الأيوبي كانت في القافلة وأسرت وأهينت ثم رجعت مع من رجع من الأسرى، ثم ماتت سنة 616 هجرية.
الشاهد (بهاء بن شداد):
وصف بهاء بن شداد جنازتها في كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية:
“أخت صلاح الدين وتحرير القدس” أكذوبة مشهورة وحقيقة مجهولة”
القاضى:
التهمة الثانية المنسوبة إليك:-
أنت متهم بشأن معاهدة الرملة مع ريتشارد قلب الأسد كان ذلك بسبب ضعفك،
إن صلح الرملة الذي نفذته أعطى صلاحيات للصليبيين في بلاد الشام وذلك من أجل مكاسب سياسية خاصة.
صلاح الدين:
لا ليس صحيحاً لأننى انتصرت عسكرياً في مواقع كثيرة، وإنما كان سبب الصلح هو حالة الضيق من كثرة الحروب بين جند صلاح الدين وجند الصليبيين
أما صلح الرملة خضعت المساحة بين صور ويافة للصلبيين، بينما سيطر المسلمين على كل المناطق، ويرجع ذلك لضغوط داخلية
الدفاع:
هذا ما عبر عنه القاضى ابن شداد
الشاهد (القاضى بهاء بن شداد):
“لم يرغب في الصلح ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر، وتظاهرهم بالمخالفة”
“فبمقتضى صلح الرملة خضعت المساحة الواقعة على ساحل البحر المتوسط ما بين مدينتي صور ويافا للنفوذ الصليبي، بينما ظلَّ المسلمون مسيطرين على كل المناطق التي حرّروها بما في ذلك القدس، مع السماح بحرية النصارى في زيارة الأماكن المقدسة في المدينة، وعلة هذا الضغوط الداخلية على صلاح الدين، وتمثلت في النزاع بين الأكراد والتُرْك في جيش”
القاضى:
التهمة الثالثة المنسوبة إليك:-
أنت متهم بتنفيذ مذبحة حارة المنصورية، في حق السودانيين حيث قُتِل منهم خمسين ألفًا
صلاح الدين:
بدايةً حارة المنصورية لم تكن حارة مدنية وإنما عسكرية بالمعنى الحرفي، وتبدأ القصة أن أحد العبيد السودانيين ويسمى “مؤتمن الخلافة” راسل الصليبيين طالبًا إليهم الدخول لمصر وبمجرد خروجى لملاقاتهم أعلن مؤتمن الخلافة نفسه حاكمًا على مصر ثم خرج لضربى من الخلف.
ضُبِطَت رسالة مؤتمن الخلافة فأعدمته بتهمة الخيانة، مما أثار ثائرة جنود السودان البالغ عددهم 50 ألفًا، فحدثت معركة بينهم وبين جنودى قُتِل فيها من الفريقين الكثير حتى هُزِم جند السودان
الدفاع:
ذكر ابن الأثير وابن خلدون والداواداري:
تم إجلاء المستسلمين منهم خارج الحارة ثم تم حرقها
الشهود:
الشاهد الأول (المقرزى):
المقريزى – مشهور بموقفه العكسي من صلاح الدين، فهو ميال للفاطميين ومع ذلك فإن روايته لقصة الجنود السودان في الجزء الثاني في كتابه «المواعظ والاعتبار» قال:
«الحارة المنصورية كانت كبيرة وفيها مساكن السود، فلما كانت واقعتهم مع صلاح الدين، أمر بتخريبها وتحويلها إلى بستان، وتتبعهم صلاح الدين بالصعيد حتى أفناهم وقضى على شرهم، كانت لهم في كل قرية ومحلة وصنعة بديار مصر مكان خاص بهم، لا يدخله أحد غيرهم، وكانوا إذا ثاروا علي وزير قتلوه، وكان ضررهم عظيماً لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلما كثر بغيهم وزاد تعديهم، أهلكهم الله بذنوبهم».
الدفاع:
بناءاً على تلك الرواية فإن المقريزي لم ينص على حرق النساء والأطفال أحياءاً بل يؤكد على أنهم تركوا القاهرة وذهبوا للصعيد، ولم ينتهي صراعهم مع صلاح الدين أيضاً، فالمقريزي خلال الجزء الأول من كتابه «السلوك لمعرفة الدول والملوك» حكى قصة انقلاب من بقايا سودان المنصورية في الصعيد نفذوا انقلاباً على صلاح الدين بالتعاون مع كنز الدولة.
الشاهدان الثانى والثالث (السيوطى والأنطاكى):
يؤكد السيوطي والأنطاكي في تاريخهما:
أن الحاكم بأمر الله كلفهم – السودانيين – بتربية المصريين بعد سخريتهم منه فأسروا المصريات واغتصبوهن واستولوا على أموال رجالهن، لم يكن المصريين يحبونهم، فلم يغضب المصريين لقتلهم،
القاضى:
التهمة الرابعة المنسوبة إليك:
أنت متهم بحرق مكتبة القصر الفاطمية
صلاح الدين:
لم أحرقها، ولكنى أزلت منها كل الكتابات التى تسب الصحابة وتشتمهم وتمجد المذهب الإسماعيلى الشيعى، وهو مذهب متطرف
الدفاع:
المذهب الإسماعيلى الشيعى، وهو مذهب متطرف حتى فى عرف معظم فرق الشيعة الأخرى.
الشاهد:
الكاتب المدون “منير إبراهيم تايه”:
“لم يحرق مكتبة القصر، وإنما أزال منها كل الكتب التى كانت تنضح الغلو والتطرف ضد الصحابة، وتمجد مذهب الإسماعيلية، وهو مذهب الحشاشين المعروفين بالغدر والخيانة والاغتيال. حقائق التاريخ تقول: تقييم أى حاكم يخضع لمعطيات عصره وزمانه وبحسناته وسلبياته، وحسنات صلاح الدين كالنهر الجارف الذى يغمر أى هنة”
القاضى:
التهمة الخامسة المنسوبة إليك:
هدم عدداً كبيراً من الأهرامات فى منطقة الجيزة، بأكملها وأخذ حجارتها لبناء قلعتك تحت سفح جبل المقطم، والسور المحيط بالقاهرة، ، ولم يتبق منها سوى أعظمها والمعروفة حالياً باسم هرم خوفو، وهرم خفرع، وهرم منقرع، وهى التى لم يقو الزمن ولا صلاح الدين على تدميرها”
الدفاع:
ورد هدم الأهرامات فى كتاب “خطط المقريزى” لتفى الدين المقريزى وهو
مشهور بموقفه العكسي من صلاح الدين، فهو ميال للفاطميين
الشهود:
الشاهد الأول (الباحث سامح الزهار المتخصص فى الأثار الإسلامية والقبطية):
“أنه ليس من العدل إتهام صلاح الدين الأيوبي بأنه هادم لعدد من أهرامات الحضارة المصرية القديمة دون النظر لطبيعة المرحلة التاريخية، وذلك لبناء سور لحماية القاهرة وبناء قلعته فقد كان هذا الفعل لا يعتبر جريمة في ذلك الزمن، وذلك لأسباب عديده منها أن الآثار بما فيها الأهرامات لم تكن تمثل قيمة اقتصادية كما في العصر الحديث.
“كما أنها لم تكن تحظى – الأهرامات – بالقيمة الثقافية المطلوبة ولا مصدراً من مصادر التاريخ وذلك بسبب عدم معرفتهم آنذاك باللغة المصرية القديمة المنقوشة على الأهرام، كما كان عصر صلاح الدين الأيوبي من العصور التي غلب عليها التقشف في النواحي الترفيه لتوجيه كافة موارد الدوله للجيش نظراً للمخاطر التي كانت تحاك بمصر فى ذلك الوقت”
الشاهد الثانى (مجدي شاكر، كبير الآثريين في وزارة الأثار):
“صلاح الدين لجأ بالفعل إلى ذلك – هدم الأهرامات وبنى بحجارتها القلعة – باعتبارها عادة متوارثة وموجودة منذ أيام الفراعنة وتعرف بإعادة التدوير للأحجار واستغلالها في بناء مبانٍ أثرية جديدة”.
“لم يكن القائد صلاح الدين الأول الذي أقدم على هذا الفعل، …. منذ عهد الفراعنة كانوا يستغلون بقايا أحجار المعابد المنهارة بفعل الزلازل في تشييد معابد آخرى، وهي عادة متوارثة منذ القدم، والقاهرة الفاطمية كل أحجارها قادمة من معابد منطقة المطرية، ومحمد علي باشا أيضاً كان ينوي فك الهرم الأكبر لبناء القناطر الخيرية، ولكنه تراجع لغلاء تكلفة ذلك”
“إن السبب في ذلك هو أنه حتى عام 1822م لم يكن يعرف أحد أهمية وقيمة الحضارة الفرعوية حتى تم فك رموز حجر رشيد وبالتالي لم يعرف صلاح الدين أو محمد علي قيمة هذه الأهرامات في ذلك الوقت، في عصر صلاح الدين كان عادي ليس هدم للحضارة لأنهم لم يعرفوا شيئاً عن الفراعنة”
القاضى:
التهمة السادسة المنسوب إليك”
غلق الأزهر وإبقائه معطلاً لا تقام فيه صلاة الجمعة مائة عام ولا تلقى فيه دروس العلم من باب أولى حتى أعادها الملك الظاهر بيبرس»
الدفاع:
جاء فى كتاب الأزهر تاريخه وتطوره والصادر عن وزارة الأوقاف سنة 1989، فقد استعمل – صلاح الدين – علماء الأزهر فى كافة المدارس التى فتحها
“صلاح الدين بنى 8 مدارس قوامها من كتب الفاطميين عدا الشيعية”
الشهود:
الشاهد الأول (الدكتور عبد المقصود باشا، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر):
“يجب على الذين يحاولون تشويه تاريخنا أن يلتقوا علماء التاريخ الحقيقيين ليتعرفوا على مجد رجالنا وتاريخنا ولا يشتروا بتاريخ مصر ورجال الإسلام ثمناً قليلا”، مؤكداً أن صلاح الدين أول من خصص للأزهر أوقافاً.
“لم يكن في هذا الوقت للأزهر أوقاف وإنما كان مؤسسة علمية يقوم بالصرف عليها خلفاء الفاطميين ووزرائهم ثم بعد ذلك الأيوبيون، وتحدثنا كتب التاريخ أن صلاح الدين وخلفائه أو من خصصوا أوقافاً للأزهر والصوفية سواء من الأراضي الزراعية أو العقارات”.
“كثير من الناس لا يعلمون أن الأزهر كان رمزاً للدولة الفاطميين، أما صلاح الدين كان سنياً شافعياً والمذهب الشافعي يقول أن صلاة الجمعة في البلد لا تقام إلا في جامع واحد ما دامت ساحته تتسع لعدد سكان البلد وقد ولي صلاح الدين القضاء والإفتاء لشيخه الذي كان من علماء الشافعية فنقل الجمعة بحسب مذهبه من الجامع الأزهر إلى المسجد العتيق “عمرو بن العاص”، أما بقية العلوم من فيزياء ورياضيات وفقة المذاهب الأربعة فقد كانت تدرس في الأزهر بالإضافة إلى علوم الفلسفة والمنطق”، نافياً في الوقت ذاته أن يكون صلاح الدين حرق مكتبات الفاطميين”
“الأزهر نال في عهد صلاح الدين وخلفائه كل الاهتمام، فلم يغلق الأزهر على الإطلاق بل خصص لشيوخ الأعمدة فيه مرتبات أكبر من التى كانوا يتقاضونها أيام الفاطميين”
الشاهد الثانى (بن درباس):
أفتى “بن درباس” حينها بأن المذهب الشافعى لا يجيز أن تقام خطبيتن للجمعة فى مدينة واحدة وكذلك الحال بالنسبة إلى خطبة عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن ثم فلا معنى لوجود مسجدين جامعين فى مدينة واحدة، وكان الجامع الآخر هو جامع الحاكم بأمر الله، إذ كان مسجدى عمرو بن العاص وأحمد بن طولون يقعان فى مدينتى الفسطاط والقطائع بالترتيب، وكانا مستقلتين عن القاهرة حينها، وتقرر حينها الاكتفاء بإقامة الصلاة فى جامع الحاكم، ومنع الصلاة فى الأزهر.
القاضى:
التهمة السابعة المنسوبة إليك:
ذبح النوبين وقمع ثورة بنو كنز وهم إحدى القبائل النوبية كما جاء في كتاب “البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب” للمقريزي
صلاح الدين:
بمجرد ذكر جملة “ثورة بنو كنز” تشعر أنهم ثاروا على حاكم ظالم، لكن لو رأيت ما في التاريخ بشأن هذه المسألة ستجد أن بنو كنز في أصل احتكاكهم بى كانوا خونة.
الدفاع:
لن نستدل بأقوال مؤرخين يتبعون صلاح الدين ويؤيدونه ، بل سنستند لرأي مؤرخ بينه وبين صلاح الدين خلافات سياسية، وهذا المؤرخ هو المقريزي والذي دعم وأيد الدولة الفاطمية واختلف مع
صلاح الدين
ألف المقريزي كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، وذكر فيه ما سُمّي بثورة بني كنز ، فتأمل نص ما كتبه لتعلم أنهم ليسوا ثواراً بل خونة
الشاهد (المقريزي فى كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”):
“جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين، وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص، وانتهب أموالها؛ فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ومعه الخطير مهذب بن مماتي فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله.
ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة بعد ما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة”
القاضى:
التهمة الثامنة المنسوبة إليك:
الاستيلاء على قصر الخلافة الفاطمية
الدفاع:
قد وصف المؤرخ ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/ 1679م) حزن صلاح الدين على موت الخليفة بقوله “جلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره؛ والتوديع له إلى قبره” .
الشاهد (موقع موسوعة المعرفة):
” الثروة التي اكتشفها صلاح الدين في تلك الخزائن، فقد أجمع المؤرخون على أنها لا تقع تحت حصر.. كانت مصر أغنى ديار العرب والإسلام… غنية بالموارد، لقد غرق سلاطينها في الرخاء… إذ كانوا ملوك ذلك الزمن في الثراء والبذخ. كان قصر الخليفة يتألف من آلاف الغرف، وبوابته مصنوعة من الذهب الخالص، تفتح على بهو يتصدره عرش من الذهب المرصع بالأحجار الكريمة، تحيط به الأعمدة الرخامية والأثاث المزخرف من خشب الابنوس، ومطعّم بالعاج والجواهر النفيسة “
” لم يأخذ صلاح الدين لنفسه شيئاً من تلك الثروة ولا حجراً واحداً كريماً ولا حتى ديناراً واحداً… إنه أرفع من ذلك، لقد أهدى الخليفة العباسي قسماً من هذه الكنوز… وأرسل إلى نور الدين زنكي في دمشق نصيبه كي يستعمله في تجهيز جيشه لطرد الغزاة الصليبيين من الديار المقدسة، كما وزع قسماً بسيطاً على قادة وجنود جيشه. باع البقية الباقية، محولاً ثمنها إلى بيت مال المسلمين… لقد استغرق البيع عشر سنوات”
القاضى:
التهمة الثامنة المنسوبة إليك:
حبس بقايا الأُسرة الفاطميَّة من الذكور والإناث بعد إسقاط خلافتهم عام 567هـ/ 1171م، والفصَل بين الذكور والإناث في حبسهم، بهدف القضاء على نَسْلهم
الدفاع:
ما قام به صلاح الدين في هذا الصَّدد يُعدُّ أرحم ممَّا قام به الخلفاء الفاطميِّين مع خصومهم في أحداث الرمق الأخير مِن دولتهم، حينما كانوا يُطالبون الوزراءَ الجدد الذين استولوا على الوزارة برؤوس الوزراء المخلوعين على ما جاء في قول ابن تغري بردي: “
الشاهد الأول (ابن تغري بردي):
“… وهذا شأن أرباب المناصب، إذا عُزل أحدهم بآخَر، أراد هلاكَه ولو هَلَك العالم معه، وهذا البلاء مِن تلك الأيام إلى يومنا هذا”.
الدفاع:
“حرص الخلفاء الفاطميُّون على مكافأة الوزراء الجُدد على تلك الفعلة بالذَّهب والفضة والخلع والبيوتات والقصور… إلخ، ويزخر كتاب عمارة اليمني – وكان محسوباً على الفاطميين، ومُحبّاً لهم، وحزن لزوال دولتهم – المسمَّى “النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية” بكثير مِن تفاصيل الصِّراعات الدامية التي وقعت في الفترة الأخيرة من حكم الفاطميِّين لمصر.
صلاح الدين:
لم أعامل بقايا الأُسرة الفاطميَّة باستباحة دمائهم – ولكنَّه في الوقت عينِه رغبت في أن أأمن غدرَهم، وأدرأ شرَّهم، إذا ما فكَّروا في الاستعانة بأعوانهم لإحياء خلافتهم، فيتسبَّبون لى في مشكلات أنا في غِنى عنها، وكان لدى مِن التجارب الكافية لأدرك أنَّهم وأعوانهم لن يدَعونى أهنأ بما صار إليه وضعى في مصر، سواء قبل إسقاط اسم الخليفة الفاطميِّ من الخلافة عام 567هـ/ 1171م أم بعد ذلك؛ حيث واجهت عدَّةَ تمرُّدات قام بها بعضُ المنتفعين من النِّظام الفاطميِّ ومَن لهم مصلحة في بقائه، على ما قام به جوهر مؤتمن الخِلافة الذي خان مصرَ ووزيرَها وخليفتَها بالاتصال بأعداء الدولة من الصليبيين، وحثَّهم على مهاجمة مصر في الفترة التي سبقت إسقاط اسم الخليفة العاضد مِن الخلافة، وأما بعد إسقاط الخلافة عام 567هـ / 1171م، فقد كثرت تلك المحاولات التي هدَفتْ إلى التمرُّد عليا والتآمر مع الأعداء ضدى، ولعلَّ أبرز نموذج على ذلك الشاعر عمارة اليمني الذي اتَّصل بالصليبيين والبابوية وبعضِ ملوك أوربا وملك صقلية؛ الْتماساً لعونهم ضدى، وسعياً لإعادة إحياء الخلافة الفاطميَّة عام 569هـ / 1174م، ولكن فشل تمرُّده وقُبِض عليه وصُلب بعد فتوى العلماء في حقِّه.
وقد استوجبَتْ هذه التصرُّفات وغيرها – وهي مِن لَبِنات ذلك العصر وإفرازاته – ضرورةَ استعمال القوَّة في مقاومتها، وبالرغم من ذلك فقد أحجمت عن قتل بقايا الأسرة الفاطميَّة الحاكمة، واكتفت بنوع آخر مِن العقاب، مُمثلاً في حبسهم.
الشاهد الثانى (المؤرخ السنِّي المُعاصر ابنُ الأثير (ت: 630هـ/ 1235م) – الذي كان ناقمًا على صلاح الدِّين وقتها):
“… ونقل أهل العاضد إلى موضع مِن القصر، ووكل بهم – صلاح الدين – مَن يحفظهم، وأخرج جميعَ مَن فيه من أَمَة وعبد، فباع البعضَ وأَعتق البعضَ…”
الشاهد الثالث (ابنُ أبي طي الحلبي الشيعي):
“اجتمعتُ بأبي الفتوح بن العاضد وهو مسجون مُقيَّد، فحكى لي أنَّ أباه في مرضه طلب صلاح الدين، فجاء وأحضرنا ونحن صغار، فأوصاه بنا؛ فالتزم إكرامنا واحترامنا”، وأشار ابنُ كثير في هذا الصدد إلى كرم صلاح الدين معهم بقوله: “… ولمَّا مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهلَ العاضد إلى دارٍ أفردها لهم، وأجرى عليهم الأرزاقَ والنفقات الهنية، والعيشة الرضيَّة، عوضاً عمَّا فاتهم مِن الخلافة…”،
الدفاع:
“أبو شامة – اتَّصل بهؤلاء في محبسهم فيما بعد”
“ينبغي أن ندرك أنَّه لم توجد سجون مشتركة للنِّساء والرجال آنذاك، ولم أقف في مصادر هذا العصر على وجود هذا النَّوع مِن السجون المشتركة، ومن الطبيعيِّ حينما يحتاط صلاحُ الدين على بقايا الفاطميين ويحبسهم أن يَفصل بين الرجال والنِّساء؛ لأنَّه لم يَخرج بهم في نُزهة، وإنَّما حبسهم حبساً أشبه بالإقامة الجبريَّة في العصر الحالي، بدلاً مِن قَتْلهم على ما جرت العادة في ذلك الوقت، حقًّاً تخلص صلاح الدين مِن كافَّة مَن عارضه وتمرَّد عليه ومنهم للفاطميِّين بعد اتِّهامهم بالخيانة لاستعانتهم بالصليبيِّين للتخلُّص مِن صلاح الدين، ولكنه في الوقت عينِه لم يتخلَّص من بقايا الفاطميين أنفسهم؛ وهذا في حدِّ ذاته من الأمور المُلغزة والمحيِّرة، ولكن حينما ندرك أنَّ بقايا الأسرة الفاطمية لم يكن لهم حولٌ ولا قوَّة، ولم يكونوا طرفاً في أي مِن التمرُّدات ومحاولات الاتصال بالصليبيين، ناهيك عن صغر سنِّ أغلبهم؛ لأنَّ العاضد ذاته مات صغيراً وهو في نهاية عقده الثاني (1151 – 1171م)، سيبدو لنا أنَّ صلاح الدين كان يخشى مِن إراقة دمائهم بلا جريرة، وبخاصَّة أنَّ ما نعرفه عن مواقفه مع الصليبيين بعد دخول بيت المقدس عام 583هـ / 1187م وتسامحه وكرمه معهم – تجعلنا نَذهب إلى أنَّه لم يكن مُحبّاً لسَفْك الدِّماء، ولم يكن القتل الانتقاميُّ مِن صفاته.
ومن هنا فإنَّه آثَر الإبقاءَ على بقايا الفاطميين، وتَحفَّظ عليهم رجالاً ونساءً، وظلَّ هذا التحفُّظ قائماً فيما بعد حتى عصر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (ت: 1277م)،
وتوارثه المماليك عن الأيوبيِّين، ولم يكن الأمر كما يُصوِّره بعضُ المؤرِّخين بأنَّ صلاح الدين عزلهم عن الجميع؛ لأن أبا شامة المقدسي أشار إلى مقابلته لابن العاضد في محبسه، والأمر كذلك، فلا ريب أنَّهم الْتَقوا بغيره مِن الشخصيَّات التي اعتادت التردُّدَ على القصر الحاكم ثم القلعة حينما نُقلوا إليها، علاوة على أنهم كانوا يَلتقون بالمشرِفين على أملاكهم بالخارج ليحصلوا على عوائدها ويتابعوا أحوالها
تلك الممتلكات كانت تدرُّ عليهم عائداً ثابتاً، بدليل رواية المقريزي عن وكلاء هؤلاء في الخارج، وكأنَّهم يُشرفون على ممتلكاتهم ويديرونها، وربَّما يبيعون منها؛ وذلك للإنفاق على أبناء البيت الفاطمي في محبسهم، ومن ثمَّ فإن حبسهم لم يكن حبساً بالمعنى المتعارف عليه لقضاء عقوبة لفترةٍ طالت أو قصرت، وإنَّما أشبه في عصرنا الحديث بالإقامة الجبريَّة في قصرٍ كبير أولًاً، ثم في القلعة حينما انتقل إليها الحُكم الأيوبي في عصر الملك الكامل، وكان الهدف مِن هذا الإجراء أن يكونوا تحت أَعيُن الأيوبيين دَرْءاً لخطرهم بالخارج، وتحاشياً لقتلهم.
إنَّ حبس الرِّجال من الأمور التي جرَتِ العادةُ بها عبرَ عصور التاريخ، أمَّا حبس النِّساء، فحينما تكون تلك المرأة فاطمية شيعيَّة إسماعيلية، فربَّما يكون للأمر بُعدٌ آخر؛ نظراً للمكانة الكبيرة التي منحها الفقهُ الشيعي الإسماعيلي للمرأة الفاطميَّة بصفتها حاملة لكروموسوم الإمامة والخِلافة، وهو أمرٌ مِن شأنه أن يُقلق صلاح الدِّين وخُلفاءه مِن الأيوبيين والمماليك، ومن ثمَّ فإن التحفُّظ على النِّساء الفاطميات لم يكن سوى سعياً لوَأْد أيِّ مؤامرة مستقبليَّة في مهدها قد تنجم عن إطلاق سراح النساء الفاطميات.
صلاح الدين:
إنَّ فكرة حبس الرجال دون النساء مِن بقايا الفاطميين – لن تُحقِّق الغرض الذي جعلنى أقوم بحبسهم؛ بحيث ستظلُّ الخطورة قائمة ما ظلَّت المرأةُ الفاطمية طليقة، أمَّا حبسها فإنه كَفيل بمنع تلك الخطورة حاليّاً ومستقبلاً، هذا بخلاف الدور الذي قامت به المرأة الفاطمية في معترك الحياة السياسيَّة طوال النِّصف الثاني من عمر الدولة الفاطمية؛ بتدخُّلها في مجريات الحياة السياسية في الداخل والخارج، وهو أمرٌ ليس بخافٍ على ساسة ذلك العصر؛ ولذا تضافرَتْ تلك العوامل لتجعل مِن حبس الرجال والنِّساء ضرورةً أمنيَّة وسياسية أكثر إنسانية من القتل.
القاضى: ترفع الجلسة للمداولة،
مضى فترة قصيرة من الانتظار، ثم دخل القاضى والمستشاران والمدعى العام
القاضى:
“مصادر التهم انحصرت في كتب المقريزي كون أنه المؤرخ الفاطمي الأول الذي ذكر مساوئ ومحاسن صلاح الدين أيضاً، ثم تطورت النبرة التأريخية لحكم صلاح الدين ليؤرخ له الإيرانيون والعرب التابعون عقائدياً لمذاهب أخرى والذين يمقتون صلاح الدين لنهاية الدولة الفاطمية على يديه”
وبناء على قول:
المؤرخ المصرى الكبير الراحل الدكتور/ رؤوف عباس:
” … اعتبر معلقون فى خضم المعركة الثقافية حول صلاح الدين:
{إن الإتهامات الصادمة لهذا البطل التاريخى تدخل فى سياق “تفكيك تاريخنا وتشويهه
وتزييفه}”
وقول:
*الدكتورة / زبيدة عطا الله (أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس):
“لماذا نضرب كل الرموز والقيم الجيدة التى نمتلكها”؟ معيدة للأذهان “{أن صلاح الدين الأيوبى “بطل معركة حطين” شخصية تاريخية مميزة وحارب الصليبيين واسترد بيت المقدس}”
“المحصلة النهائية لصلاح الدين أنه منفذ الثورة من الانهيار ويكفى احترام وتقدير أعدائه له بعد أن اشتهر بالتسامح فى عصر بلغت فيه النعرة الدينية حد الهوس وقد تحول اسم صلاح الدين إلى رمز للبطولة السياسية والعسكرية والحكم الرشيد فى الأمة الإسلامية ونموذج يتحتم علينا استنساخة قبل فوات الأوان”
“صلاح الدين يمثل نموذجاً فريداً فى استيعاب الحضارة الإسلامية لكل مكوناتها العرقية، وأن معيار التقديم الوحيد فيها هو الكفاءة والأمانة، وهى التى جعلته زعيماً للعرب قائداً وبطلًا نتغنى به كأعظم رمز يمكن التأسى به بعد الأنبياء والرسل، والصحابة وحوارى الرسل، تحية وسلاماً إليك يا من رفعت رؤوسنا حياً وميتاً.
وبناء على ذلك حمكت المحكمة حضوياً ببراءة المدعو صلاح الدين من كل التهم المنسوبة إليه”
رفعت الجلسة
ما رأيكم بالحكم ؟ هل ارتضيتم به ؟
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى