اخلاق القرية المصرية بين اليوم والامس

 

بقلم/محمدالغنام

قبل عدة عقود من الآن كانت القرية المصرية مضرب المثل في الأخلاق والتلاحم والأمان ، لكنها لم تنج من الفساد الذي زراعته التكنولوجيا والتطور الاعلامي والبث للمسلسلات التي أدت إلي تدمير كل ما هو جميل. وإذا تابعت صفحات الحوادث ستجد حضوراً مؤثراً للقرية فيها، فما من يوم يمر دون حادث كبير بإحدي القري يزيل كل ما عرف عنها من أخلاق وتمسك بالقيم، وتجعلها تتفوق أحياناً علي المدن في الإجرام والخشونة وقلة الضمير.

طالب يشعل النار في والده ثم يذهب لمشاهدة السينما، وشاب يقتل أمه من أجل الحصول علي ذهبها وأموالها، وثالث يقتل والده ويؤكد أنه تلقي أمراً بذلك من السماء، ومدرس موسيقي يتحرش بطالبات في المرحلة الابتدائية، ومجموعة ذئاب يختطفون فتاة في توك توك ويغتصبونها في الزراعات. هذه عينة من الجرائم التي باتت القرية المصرية تشهدها في المرحلة الأخيرة وتحذر بفقدانها لأعز ما تملك من قيم وأخلاق إن الصورة النمطية والمثالية للقرية تغيرت كثيراً في الفترة الأخيرة وذلك لعدة عوامل أهمها انتشار الفضائيات ووجود الدش في كل منزل ريفي مما غير المفاهيم لدي الأجيال الجديدة، وجعل الحديث عن الترابط الاجتماعي واحترام الكبير والحياء بلا معني ولا قيمة ولا يحرك لأحد ساكناً، كما عزز هذا الأمر سفر الكثيرين من أبناء القري إلي الخارج بحثاً عن فرصة عمل ثم عودتهم إلي بلادهم يحملون قيماً جديدة وعادات لم تألفها القري في السابق، وتمردهم علي القيم والعادات السائدة في مجتمعاتهم، حتي أنهم باتوا يتهكمون علي القيم الأصيلة التي كانوا جزءاً منها قبل السفر.

فهجرة أعداد كبيرة من القري إلي المدن أدي لتغيير التركيبة الاجتماعية للقرية، بصورة أدت بالتبعية إلي تغيير التركيبة النفسية والاجتماعية والأخلاقية في القرية فضلاً عن تغير الأنماط السلوكية لأبنائها مثل تعاطي المخدرات بأنواعها وارتكاب الجرائم الجنسية والسطو وكل أشكال العنف التي كانت حتي وقت قريب بعيدة عن قاموس المجتمع القروي.

ومن أهم عوامل انعكاس اندثار الاخلاق ضعف السلطة الأبوية، وضياع الاحترام الأزلي لكبير الأسرة وكبير العائلة وكبير القرية الذين كانوا يسيطرون علي كل شيء في السابق وكانت كلمتهم سيفاً علي رقاب الجميع، وعلي العكس باتت هذه الرموز تنال قدراً كبيراً من السخرية والاستهزاء في انهيار واضح للنظام الأبوي الذي حكم القري المصرية لقرون.

العامل الاقتصادي أيضاً لا يمكن تجاهله – ففي الماضي كانت الثروة تتركز في يد الكبير، فالأب يملك الأرض الزراعية وما عليها من خيرات فكانت تؤول له بالتبعية سلطة التوجيه واتخاذ القرار، أما الآن ومع تفتت الرقعة الزراعية وإصرار الأبناء علي البحث عن مصدر رزق مستقل عن الأسرة، قلص من سلطة الأب وجعلها شكلية.

لعلاج هذه المشاكل والتي تتمثل في الإدراك الكامل لما وصلنا له دون مواربة أو خداع، ثم الرغبة الكاملة والصادقة في العلاج، الحل دوماً يبدأ من عند المثقفين والمفكرين وقادة الرأي وكذلك القيادات الدينية والسياسية القادرة علي التأثير في المجتمع والتعامل مع أمراضه، فضلاً عن توجيهه للاتجاه الصحيح.

ولابد من إعادة الاعتبار للرموز الدينية والثقافية والسياسية، إضافة إلي تشجيع العمل الحزبي المنضبط الذي يربي الكوادر علي قيم ولابد عودة الدين وتحفيظ القران والتمسك بالقيم والأخلاق وتربية نشأ جديد من خلال تغير نمط الدراما الدموية التي تتسم بالبلطجة وتشويه صورة المجتمع ولابد لدولة إن تتدخل وان تكون هناك رقابة صارمة لسيطرة علي هذا الانفلات الأخلاقي والذي هو بمثابه قنبلة موقوتة بدأت تستعد للانفجار الأخلاقي الذي سيؤدي إلي تدمير المجتمع ويؤثر علية بالسلب من الناحية الأمنية والاقتصادية

ورغم أننا في القرن ال21، الا ان ارتفاع معدلات الأمية داخل القري و الجهل بعواقب الفعل يشجع علي الإقدام عليه، وكذلك مشاهدة الأفلام البوليسية والإباحية والتي تحرك غرائز الشباب وتدفعهم إلي التقليد، والفقر وتدني الحالة الاقتصادية، وغلاء المعيشة بما يجعل الأسر غير قادرة علي توفير متطلبات أفرادها، وأصدقاء السوء وعدم العدل بين الأبناء وكثرة عدد المقاهي التي تجمع العاطلين وتجعلهم يتفقون علي الشر.

وكذلك غياب دور أئمة المساجد بحيث باتوا يتحرجون من الحديث عن مشاكل الأسرة في القرية خوفاً من الحساسيات والمشاكل، وكذلك اهتمام النظام البائد بالأمن السياسي دون توفير الأمن الكافي داخل القري لأن الشاب يفكر ألف مرة في ارتكاب الجريمة لو لمس الانتشار الأمني داخل قريته، اذن المخرج الوحيد من هذه الأزمة غرس الوازع الديني في نفوس الشباب لأنه كفيل بحمايتهم من الجنوح والشطط.

القرية المصرية حدثت لها تغيرات كبيرة، وباتت لا تختلف كثيراً عن المدن، ففي حين كانت القرية كلها تعلن الحداد لوفاة أحد أبنائها، وتحظر قيام الأفراح لعدة أسابيع، بات حفل الزفاف الذي يضم الراقصات يقام بجوار المأتم دون أدني اعتبار لمشاعر أسرة المتوفي.فهل تعود الاخلاق للقرية المصرية ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى