صندوق جدتي :قصة قصيرة بقلم / حمدي كسكين

أتذكر تلك الايام الخوالي لمنزلنا الرحب الفسيح وسط بستاننا الذي كان بمثابة جنة فيحاء من أشجار الموالح والمانجو وكل انواع الفاكهة في عزبة ابو الفضل باباظة وتكعيبة العنب التي تفترش مصطبة البيت من الناحية البحرية فتتدلي منها عناقيد العنب الحمراء والخضراء والسوداء كأنها مصابيح تضئ المكان ورائحة زهور الموالح تنتشر في المكان كأنك عبقته ببخور كمبودي وعطرته بالمسك والزعفران
كان بيتنا في ضاحية غناء تسمي عزبة ابو الفضل حيث بساتينها الفيحاء ومروجها الخضراء وهدؤها المعهود كأنك في منتجع تستجم أو كأنك تعيش في جنات النعيم
كانت ابو الفضل لاتغلق أبواب بيوتها ليلا او نهارا فالأمن والطمأنينة يرخي سدوله علي الجميع
كان الخير والبركة القاسم المشترك بين الجميع
كنا صغار نستيقظ من الفجر لنساعد اهالينا في شغل الغيط
وبعد مشقة العمل بالغيط نذهب لنلهو ونلعب او نذهب الي المشروع وهو ترعة واسعة يجري ماؤها رقراقا يحمل الخير والنماء والرواء لعزبتنا التي يمر بجوارها
كنا نستحم في مائه ونتعلم السباحة صغارا ونضع جوبية السمك علي جسوره ثم نخرجها بعد ساعات وقد امتلأت بالسمك الصابح الجميل وبعد ان نتعب من السباحة واللعب نستلقي تحت شجر الجوافة الوارف الظلال ثم نقوم نتسلق اشجار الجوافة ونقطف من ثمارها الناضجة الطرية الغضة الدانية القطوف اتعجب لتلك الشجرات التي يأكل منها كل ذي كبد رطبة من طير او أنس او حيوان وكلما قطفت ثمرة تزداد ثمرات كانت حبة الجوافة الواحدة تشبع جائع قد أعياه الجوع وقطعت به السبل فالمكان لا توجد به محلات لبيع الإطعمة مما جعل من اشجار الجوافة ملك ال ابو الفضل ملاذا امنا لكل جائع او فقير او مسكين او عابر طريق كان يقطف بعض الثمرات ويسد جوعه وملاك الجوافة لايتبرمون فقد وهبوها لله رب العالمين ولذلك كانت البركة تحل علي المكان وأهله واذا تمردنا علي الجوافة نذهب في مجموعات لنشت صف النخل الذى يزيد طوله عن نصف كيلو متر وهو نخيل قديم تراثي من الزمن الجميل كان قد زرعه الجد المؤسس حسن ابو الفضل الكبير حيث كانت النخلات تسقط رطبا جنيا للاكلين كنا نلتقم حبات الرطب الجني فتشبع جوعنا ثم نإخذ ما يكفي حاجتنا طوال اليوم
ملأت حجري بالرطب وبعض ثمار الجوافة وذهبت للبيت الكبير حيث نادتني جدتي … فرغت حمولة حجري من الرطب والجوافة داخل غرفة جدتي في مشنة صغيرة
كان بيتنا يتكون من جزئين البيت الكبير الذي نستقبل فيه ضيوفنا وننام فيه وهو مسقوف بألواح الخشب الجميلة ومبني من الطين وبيت اخر مفتوح عليه من خلال بوابة خلفية اسمه بيت المنافع به عدة غرف ومسقوف من جذوع النخيل والسدة المقشورة وتوجد به غرفة جدتي حيث جدتي الحارس الإمين علي دولاب اللبن وخزين البيت وصوامع الغلال وجرار الجبن القديمة والمش وحصر الجبن القريش الصابح
وطواجن اللبن الرايب التي تعلوها طبقة سميكة من القشطة
ومشنات العيش الفلاحي والعيش الملدن
كانت جدتي لها دور محوري في البيت وفي وتوزيع الادوار
ولها الحق المطلق في ادارة دولاب العمل فيما هو متعلق بتصريف امور البيت فهي من تحدد موعد الطحين وهي من تنزل الغلة والذرة من الصوامع وهي من تصدر فرمان سلطاني يحدد موعد الخبيز
سألتني جدتي انت جعان ..
اه ياجدة انا ميت من الجوع
اصبر شوية وانا هجهزلك لقمة تاكلها
حاضر ياجدة
سخنت جدتي رغيف عيش طري فلاحي علي المسخنة
علي الراكية المشتعلة بالخشب
واحضرت رقاقة وفتتها في اللبن وطقت بيضتين في القشطة
علي نار الراكية ووضعتهم امامي علي طبيقة مصنوعة من جريد النخيل الملون
كانت جدتي علي مايبدو مشغولة بشئ ما انا لم اعيره اهتماما حيث كنت مشغولا عنها بالتقام لقيمات شهية يقمن صلبي ..التهمت ما اعدته جدتي من طعام شهي
وطالعت وجه جدتي الصبوح الذي مازال يحمل جمالا رغم عاتيات الزمن ونوازله التي انهكت قواها وانا اطالع وابحلق في صندوقها الخشبي القابع في ركن أمين من المنضرة الرحبة الفسيحة التي تأوي كائنات شتي من مخلوقات الله
كلما طالعت عيناي صندوق جدتي تتوتر وتزمجر ويعلو صوت صياحها وبدأت تصب لي كوب لبن حليب
وهي تنادي صارخة بتبص علي ايه هو فيه حاجة تخصك في المنضرة
اطلع برة
اطلع اشرب كباية اللبن برة
تسمرت قدماي وانا مستغرق في النظر
و البحلقة الي صندوق جدتي
وتسمرت قدامي بعد ان زاد شغفي في مطالعة صندوق جدتي ومعرفة محتوياته
شدتني جدتي بالقوة لتخرجني من غرفتها
اطلع غور اشرب اللبن برة
وخرجت اجر اذيالي وعقلي الصغير مازال يحن لفك شفرات صندوق جدتي وسبر اغواره
كانت جدتي علي مايبدو اخرجت بعضا مما في بطن صندوقها لتعيد ترتيبه
او تسترجع ذكر…