اخبار محليةشعر و أدب

هي والعجوز للأديبة وفاء أحمد حسن

هي والعجوز للأديبة وفاء أحمد حسن

الأديبة: وفاء أحمد حسن

تستيقظ كل صباح متهللة، وجهها نوار بللته الأنداء، تفيض روحها بالمرح، تتحرك فتدب الروح في أرجاء البيت، تملؤه بهجة، تركض كملاك تسابق الرياح يتطاير شعرها الكستنائي المسدول علي كتفيها فتبدو كزهرة ندية تضيء بستان أسرتها وجيرانها، تجمع الوردات النضرات من روضة منزلها تهدي شذاها لوالديها وأخويها، طيب أخلاقها ورجاحة عقلها – رغم حداثة سنها – حديث سكان قريتها.
جلست بغرفتها المطلة علي حديقة المنزل، تسرب الضوء عبر زجاج النافذة متسللا من بين أشجار الرمان علي ركن الجدار المقابل لمرقدها، تلهو بدميتها، تمشط شعرها الذهبي، تحيك ثيابها بخيوط حريرية، تخصها بأسرارها، فتحت أمها الباب رفعت رأسها مبتسمة تهللت أساريرها، بدى ثغرها كأن الدر فيه منظم، لمعت عيناها الخضراوين في سحر وجمال كعيون هرة، رافقت أمها سيدة عجوز شق الزمان في ملامحها دروب من القسوة، ارتدت جلبابًا وعصبة رأس سوداوين، اخفت الوشوم علي وجهها تضاريس الزمن، تدلى من أذنيها قرط مستدير كأنه خلخال، نظرت لها السيدة نظرة ثقبت روحها ونفذت منها، انقلب مزاجها اختفت البسمة التي علت وجهها، غلقت أمها الباب، تملك الرعب قلبها، اقتربتا منها، هرعت إلي الباب –عبثا حاولت الهروب– من فرط خوفها، انقضا عليها، امسكتا ذراعيها بقوة، حاولت التملص فلم تستطع وتعالت صرخاتها مستنجدة بأبيها لكن ما من مجيب، طرحاها على السرير الحديدي رغيمه، أصدر أزيزًا كأنها أصوات الجان.
أوثقا يديها خلف ظهرها برباط غليظ كقلبيهما، كمماها، باعدا بين ساقيها، حاولت تحرير نفسها لكن القبضة القوية أنهكتها.
رفعت رأسها تطالع والدموع تملأ عينها، أخرجت العجوز من حقيبتها مشرطًا، لمع نصله تحت الضوء، أصاب وهجه عينيها كأنه البرق، اعتصر الخوف قلبها، سرت في أنحاء جسدها رجفة ككبش يرى السكين في يد القصاب، ترجت أمها، بكت، صرخت، تعالى نحيبها، قاومت قدر استطعتها لكنها لم تستطع الفرار..
تدفقت الدماء ساخنة بلا هوادة، كتمته العجوز بخرقة متسخة في يدها، خارت قواها وغابت عن الوعي، حررتا ساقيها، نجت من نزيفها بأعجوبة.
استفاقت في ذهول حائرة العينين مرتعدة، فقدت القدرة علي التعبير، ضمت ركبتيها الصغيرتين لصدرها ربما خوفًا أو خجلًا لتبولها في ثيابها، ما زالت الآثار واضحة على سروالها الملطخ بالدم والوجع، بائس كمصيرها المحتوم.
كلما فتح الباب ورأت أمها تحاول الإقتراب منها، ازداد اضطرابها تلتصق بالأرض متخذة وضع الجنين، تصرخ بأعلي صوتها كيوم كانت تحت رحمة العجوز، منكوشة الشعر تشبه جنية خرجت من كتب الأساطير القديمة، بليت ثيابها، تتعالى أنفاسها مصدره صريرًا كصرير مفتاح صدأ يلج في باب مغلق منذ قرنين من الزمن، ترتعد أطرافها وتهتز رأسها بعشوائية، تنتابها تشنجات تنتفض كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، تقف أمها واجمة تراقبها في توتر، تجلس بجوارها تحاول تهدئتها دون جدوى، تعض أناملها ندمًا في وقت لايجدي فيه الندم، يحوم الضعف والاستسلام حولها، تنصرف في صمت دامعة العينين.
نجت من بين فكي الموت لتقع بين فكي الحياة، لم ينطفئ بريق جمالها تحت وطأة سنواتها الأربعين، نضجت ملامح أنوتها لكنها تحولت لكائن محشو بالفزع، كلما تسربت أشعة الشمس على جدار حجرتها وهي تلملم آخر خيوطها ليحل الظلام انزوت في ركن الغرفة تراقب الباب حائرة العينين، تذهب وتجيء فجأة في غرفتها بعصبية مدمن تنقصه جرعة أفيون.
ظلت ذكرى المشهد عالقة في عقلها تطاردها، أعتقلتها داخل جدران حجرتها، احتشدت داخلها قبائل النساء المقهورات، ما عانته أكثر حزنا من أن تبكي، أطبق الصمت علي قوتها وصوتها، لا لغة لها الإ نظرات عينيها الفارغتين، اللتين تبدو كأنهما تنظران إلى شيء من وحي الخيال، انطوت علي نفسها حاضنة دميتها الملوثة بدماء مر عليها ما يقارب من ثلاث عقود.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى