أشتاتًا أشتوت…. حابس حابس!

التعطش البشري لتسخير القوى الخفية

كتبت: رضوى صقر

من منا لم يلحظ، في الآونة الأخيرة، انتشار الأعمال الدرامية والروائية بشأن السحر والشعوذة، وما يتصل بها من أفكار المس، وتسليط الجان، وغيرها من الحالات التي تتناولها مثل تلك الأعمال.

وفي اعتقادي أن معظمنا انتبه أيضًا إلى انتشار مقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إما بشأن الأوراد والممارسات التي تُساعد على فك الأسحار، أو تجنبها والوقاية منها من الأساس، أو تلك التي تُصور إيجاد الأسحار المدفونة في المقابر وآليات تعطيلها، سواء كان ذلك حقيقيًا بالفعل، أم أنها مقاطع مُصورة لجذب المزيد من المشاهدات والمتابعات.

هذه المسألة تُثير العديد من التساؤلات التي تتمثل فيما يلي: ما هي أسباب انتشار تلك الظاهرة وتسليط الضوء عليها بهذا الشكل ونحن في العِقد الثالث من الألفية الثانية، وقد بلغنا كل ذلك الكم من التطور العلمي والتكنولوجي؟ وما هي أسباب إقبال القراء والمشاهدين على مثل تلك الموضوعات؟ وكيفية علاج المشكلة من جذرها؟

نحن لا نشكك أبدًا في وجود السحر، والحسد وغيرها، ولن ندخل في جدليات تعريف تلك المفاهيم التي تحتاج إلى بحث في التفاسير القرآنية، والأحاديث الشريفة، والسنن ذات الصلة، ولكننا هنا بصدد معالجة قضية مجتمعية بأبعادها المختلفة.

لقد أصبح الأمر خارجًا عن السيطرة، فكلما تعرض أحدهم لأزمة ما، تجده يقول “أنا معموللي عمل”! ينطبق ذلك على من تأخر زواجها، ومن انفصلت عن زوجها، وذلك الذي لا يستطيع أن يجد عملاً، أو لا يبقى طويلاً في أي عمل يلتحق به، بل إن الأمر وصل إلى التأكيد في بعض الحالات على أن أحدهم مات بسبب السحر.

ويتصل بتلك المسألة، كثرة الحديث عن عالم الجن والغيبيات، وعلاقة الجان بالبشر، وأنواع الجان، وكيفية تسخير الجان من القبائل المؤمنة والطيبة للحماية من شياطين الجان المسخرين لإلحاق الضرر بالشخص نفسه وبمن حوله.

ولا يقتصر الأمر على الفئات من الطبقات الفقيرة، أو غير المتعلمين، بل تجده أيضًا بين بعض الدارسين حملة الماجستير والدكتوراة في المجالات المختلفة، فتجده أيضًا بين بعض أبناء الطبقتين الوسطى، والعُليا، ويظل الجدل غير محسومًا عن دور السينما والدراما في تلك الظاهرة، بين من يرى أن الدراما تعبر فقط عن نبض المجتمع، ومن يؤكد أن الدراما تسببت في زيادة وانتشار تلك الظاهرة، ولا يقتصر ذلك على الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية والعربية فقط، وإنما يشمل أيضًا الأعمال التي تنتجها السينما العالمية، والمنصات الحديثة المختصة ببث المسلسلات والأفلام الحصرية.

واتصالاً بتلك المسألة، يأتي دور وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات المقاطع المسموعة والمرئية المختلفة، والتي تتحدث عن قراءة أوراد قرآنية وذكر بعض أسماء الله الحسنى واستخدام بعض الأعشاب والعطور وغيرها لفك الأسحار، وإبطال الحسد، وتيسير الأمور، بالإضافة إلى من يطلقون على أنفسهم “شيوخ” يروجون لأنفسهم باعتبارهم يساعدون المتابعين في التخلص من الأسحار وأثارها، والأدهى من ذلك وجود بعض القنوات الفضائية التي تُروج لمثل تلك الأمور جهارًا نهارًا على مرأى ومسمع من الجميع.

إن السحر والحسد مرتبطان بالأساس بعدم رضا الإنسان عما قسمه الله عز وجل له من النعم، وما كتبه عليه من الابتلاءات، وسعيه لتسخير كل الوسائل التي تساعده على الوصول لأهدافه بشكل مشروع أو غير مشروع، فعلى سبيل المثال، تجد شخصًا يحسد آخر على ما أتاه الله من نعم فيسعى لسلبها منه عن طريق السحر، وتجد شخصًا آخر يسعى للزواج من فتاة معينة، والعكس، عن طريق اللجوء للسحر، وثالث يسعى إلى الحصول على مكانة مرتفعة عن طريق السحر، وغيرها من الحالات التي نشاهدها في الدراما وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.

المشكلة أن السحر في هذه الحالات لا يرتبط فقط بضعف الإيمان، وإنما يرتبط أيضًا بالسعي إلى تحقيق الهدف القديم للإنسان الذي يسعى دوما إلى السيطرة على كل شيء حوله، وتسخير كل الموجودات لخدمته، وهي تلك الرغبة البشرية التي بدأت معها كافة الأساطير المتعلقة بالسحر منذ آلاف السنين.

القضية الثالثة، هي أن السحر يتمثل في السيطرة على إرادات الأشخاص الآخرين، أي سلب الإنسان حرية تقرير مصيره لكي ينصاع إلى رغبات الشخص الذي لجأ للسحر للسيطرة عليه، وذلك على الرغم من أن حرية الإنسان في تقرير أموره واتخاذ قراراته هي إحدى نعم الله الكبرى على البشر الذي اختصهم بالعقل المفكر الواعي، والنطق والبيان، وبالتالي فإن السحر في مجمله يعتبر تحديًا صارخًا وجليًا للمشيئة الإلهية، وشِركًا بالله عز وجل باعتباره تدخلاً فيما جرت به المقادير، على الرغم من تأكيد الله عز وجل أنهم “وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله” صدق الله العظيم.

إن مواجهة تلك الظاهرة للحد من انتشارها، لا يتأتى إلا من خلال المواجهة والاعتراف بوجود تلك الظاهرة إلى حد يمس السلام والاستقرار المجتمعي، وبالتالي ضرورة تجديد الخطاب الديني والتشديد على أن أعمال السحر والشعوذة تتنافى مع أسس العقائد السماوية، ومشيئة الله عز وجل بشأن تحرير الإرادة الإنسانية من كافة القيود عدا تقوى الله غز وجل، بالإضافة إلى نشر الوعي عبر حملات إعلامية مضادة يقوم بوضعها مجموعة من أبرز المفكرين في مجالات العقيدة، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وغيرهم من الشخصيات البارزة المؤثرة لدى أبناء المجتمع، على أن يُصاحب ذلك تطبيق كافة الأُطر التشريعية والقانونية الحالية وتحديثها بما يُشدد القبضة القانونية والأمنية على كل من تُسول له نفسه اللجوء إلى مثل تلك الأساليب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى