كيبورك يعقوبيان الجاسوس الكامل والحوت الأكبر

بقلم الاعلامية / د هاله فؤاد
كيبورك يعقوبيات أخطر جاسوس مصري في تل أبيب وداخل الجيش الاسرائيلي .
قصة تجنيده تشبه إلى حد كبير قصة تجنيد رأفت الهجان أو رفعت الجمال .
قبل التحدث عن كيفية تجنيده ، دعونا نلقي نظرة على حياته قبل تجنيده .
ولد كيبورك يعقوبيان عام 1938 م في مصر ، وهو مصري أرمني الأصل ، درس في المدارس المصرية ، حصل على الابتدائية بتفوق ، ثم البكالويا ، توفي والده في عيد ميلاده العشرين ، فوجد نفسه مسؤول عن إعالة أمه الفقيرة .
فلم يجد أمامه سوى كاميرته التي كان يحملها معه في كل وقت وحين ، فهو يعشق هواية التصوير ، ولكن الآن وجد نفسه مضطرا لتحويل هوايته إلى مهنة يتكسب منها .
فتجول في الحدائق يلتقط الصور هنا وهناك ، ولكن الرزق كان شحيحا مما جعله يتورط في عمليات نصب ،على إثرها دخل السجن ليقضي عقوبة الحبس ثلاثة أشهر .
ولكن لم يمض سوى ثلاثون يوما في السجن ، واذا رجل أربعيني يدخل عليه زنزانته ، ويقول له : عفا الله عما سلف، ونؤمن لك مستقبلك ، ومستقبل أسرتك ، وذلك مقابل العمل لصالح المخابرات العامة المصرية ، فوافق يعقوبيان فورا ، وبلا تردد ، فقد اشتاق للحرية ، فيعقوبيان كان شابا مرحا محبا للحياة ، والتنقل من مكان الى مكان.
حينما نجح رفعت الجمال داخل المجتمع الاسرائيلي ، واستطاع بذكائه اقامة علاقات قوية مع الساسة وصناع القرار ، وحصل على معلومات سياسية غاية في الأهمية .
هذا النجاح جعل سقف طموحات صقور المخابرات العامة المصرية يعلى ويعلى ، فطرأت فكرة مجنونة بتجنيد أحد الأشخاص داخل الجيش الاسرائيلي ، اذا نجحت سوف يتم الحصول على معلومات ليست سياسية فقط ولكن معلومات عن الجنود ومشاعرهم ، يتعامل مع المعدات والادوات الحربية للجيش .
وتم الاتفاق على تجنيد كيبورك يعقوبيان ، لأنه شاب ذكي ، مرح ، ناجح اجتماعيا ، وبالرغم من أنه لم يستطع اكمال دراسته الجامعية لظروفه العائلية التي تم ذكرها سابقا ، فقد كان يجيد أربعة لغات غير العربية ، الانجليزية ، والفرنسية ، والاسبانية ، والتركية .
بالاضافة لبراعته في التصوير، مما سيسهل عليه مهمته في الحصول على المعلومات التي سيكلف بها .
بعد موافقة كيبورك ، بدأ اعداد الخطة ، وتم تدريبه على اساليب العمل السري ، والحبر السري ، وكيفية الهروب من المراقبة ، كيفية جمع المعلومات وتحليلها ، تصغير الصور .
استمرت فترة تدريبه عاما كاملا ، كانت اهم واصعب مهمة هو تقمصه دور اليهودي المتدين ليحظى باحترام الجميع.
ولكن كيف يتم ذلك ، هل بالاستعانة باحد اليهود المصريين ، الامر لايخلو من الخطورة ، ففي ذلك الوقت كانت الحركة الصهيونية نشطة .
فكان لزاما على كيبورك أن يتعلم ذلك بنفسه ، فبدأ يتردد على المعبد اليهودي في شارع عدلي وسط القاهرة ليتعلم العادات والطقوس الدينية اليهودية ، وبدأ فعلا بممارستها وجعلها تتخلل حياته اليومية ، كما قرأ العديد من الكتب والصحف التي تتحدث عن إسرائيل .
وكان من الضروري على كيبورك أن يخضع لعملية ختان ، فاليهود يحرصون على ختان ذكورهم بعد أسبوع من ولادتهم ، لأن ذلك يعد دليلا على الولاء للعقيدة اليهودية .
أعد الخبراء المصريون الأوراق والوثائق اللازمة لتقديم يعقوبيان في مهمته الجديدة .
وكان على يعقوبيان تقديم نفسه بوصفه ابنا لعائلة يهودية تركية لجأت إلى القاهرة من اليونان .
كتب في أوراقه أنه من مواليد سالونيكا ، عام 1935 م ، ويدعى ( إسحاق كاوتشوك).
مرت عائلته بظروف عصيبة ، بعد أن هجر الأب زوجته وابنه إلى مكان غير معلوم . فقررت الأم الهجرة بصحبة ابنها إلى مصر
توفيت الأم ودفنت في مقابر اليهود بالبساتين .
وإمعانا في حبك القصة كان يعقوبيان أوإسحاق عادة يسحب صورة قبر أمه ويبكي بحرقة ، وكان يعقوبيان يحمل دائما في جيب سترته أوراق هوية صادرة عن الطائفة اليهودية بالقاهرة ، كانت الوحدة الفنية التابعة للمخابرات قد زودته بها .
ولكنه كان يحمل في جيبه صورة ضوئية منها حتى يصبح من المستحيل كشف الأختام المزورة ، وذلك على الرغم من دقة التزييف وإتقانه ولكن زيادة في الحرص .
وفي خريف سنة 1960 م تقدم يعقوبيان بطلب الى وكالة غوث للاجئين التابعة للأمم المتحدة حتى يحصل على شهادة لاجئ تمهيدا للهجرة الى البرازيل.
وفعلا حصل على شهادة اللجوء وتوجه لقنصلية البرازيل طالبا التصريح بالهجرة .
وكانت فكرة الهجرة الى البرازيل فكرة صائبة حيث أن في ذلك الوقت كانت الحكومة المصرية قد وضعت قيود على أي يهودي يهاجر الى أوروبا اعتبارا من سنة 1960 م .
في مارس عام 1961 م سافر بهويته الجديدة من الاسكندرية الى ايطاليا وذهب إلى ميناء جنوا ، وبعد ذلك ركب السفينة الاسبانية إسمها (كافاسان وكي ) متجهة إلى البرازيل .
قابل كيبورك على متن السفينة شاب اسرائيلي يدعى ايلي ارجمان في الثلاثين من عمره برفقة زوجته وإبنتيه إلى البرازيل في زيارة عائلية .
انبهر ارجمان بيعقوبيان اليهودي المتدين الهارب من القاهرة ، حيث أن ارجمان كان يهوديا عميق التدين ، وزاد تاثره به اكثر حينما شكى يعقوبيان من الوحده ومن فراق أمه وبكاءه عليها ممسكا بصورة قبرها ، وأيضا تعرضه للتعذيب والاضطهاد في مصر .
وتوطدت العلاقة بين يعقوبيان وارجمان وعائلته ، حيث لم يفترقوا خلال الرحلة على السفينة التي امتدت اسبوعين ، ياكلان ويشربان ، ويسهران معا .شعر يعقوبيان ان الحظ حليفه وان مهمته أصبحت سهلة بالتعرف على هذا الشاب ، وتوقع أنه سيدعوه إلى الهجرة إلى إسرائيل أجلا أو عاجلا .
فكان دائما يؤكد رغبته في الاستقرار في امريكا اللاتينية .
لكن المفارقة أن الشاب الاسرائيلي انتهز فرصة احتفال اليهود على متن السفينة بالعيد الثالث عشر لقيام إسرائيل وأخذ يلح على يعقوبيان بحماس شديد ليسافر معه الى اسرائيل ، ولكن يعقوبيان أخذ يتمنع ويتهرب من الموافقة .
بعد الوصول الى البرازيل لم تنقطع صلة يعقوبيان بارجمان وعائلته ، بل تعددت اللقاءات طيلة الشهرين اللذين مكثت فيهما عائلة ارجمان .
أخذ ارجمان يحكي ليعقوبيان عن تاريخ الصهيونية واحتياج إسرائيل لسواعد الشباب ، واخذ يحثه على السفر إلى إسرائيل .
ثم عرض عليه أن يعرفه على مسؤولي الوكالة اليهودية ، ليشرحوا له حقوقه كمواطن وفرص نجاحه كمهاجر، وظل يعقوبيان يتظاهر بالتردد ، حتى استجاب في النهاية تحت ضغط وإلحاح أرجمان .
بعد وصول يعقوبيان او اسحاق كاوتشوك الى البرازيل بشهرين اندمج مع الجالية اليهودية في ساو باولو ، وفي نهاية عام 1961 م تقدم إلى مكتب الوكالة اليهودية بطلب هجرة الى اسرائيل تم قبول طلبه وأبحر من البرازيل الى اسرائيل .
أبحرت السفينة يميت من ميناء جنوا الايطالي ، إلى ميناء حيفا .
وصل كيبورك الى فلسطين المحتلة ، واتصل بصديقه ارجمان يخبره بمجيئة . استخدم ارجمان علاقاته بالوكالة اليهودية ، واستطاع تدبير حجرة مشتركة لمعيشة كيبورك ، ومدرسة لتعلم اللغة العبرية .
ولكن بعد فترة اشتكى يعقوبيان أنه لايستطيع النوم مع شخص لايعرفه ، وبالطبع كان الهدف هو تنفيذ خطة المخابرات المصرية ، التي أمرته بان عليه العمل في إسرائيل بهدوء وتدريجيا ، والا يتهور بأخذ أي خطوة قبل تلقي الاوامر الواضحة بذلك .
وكانت الخطة محبوكة بحيث يصل كيبورك وهو في سن التجنيد ، فيتم ضمه الى جيش الاحتلال بطريقة طبيعية ، وكان عليه أن يجتهد في الانضمام الى القوات الخاصة ،او سلاح المدرعات ، او شعبة الاستخبارات الحربية.
تمكن كيبورك من الانخراط بسهولة في المجتمع الاسرائيلي بمرحه وذكائه ووسامته ، فاستطاع الحصول على محبة الجميع .
تدخل ايلي ارجمان مجددا ، مستخدما نفوذه لدى الوكالة حتى عثر على مسكن ومدرسة في كيبوتس نجفا ، كان يدرس العبرية في الصباح الباكر ، ثم يقضي بقية النهار في العمل بالمزرعة الجماعية . استطاع ان يكتسب ثقة ومحبة الجميع .
لكن مدرسته يهوديت هارئيل كلنت تظنه عازفا عن التعليم ، وان كل همه تصوير بنات الكيبوتس بكاميرته ، فقد كان دائما يحمل معه كاميرته المتطورة بحسب معايير هذه الفترة الزمنية ، وكان يحمل صورا مهزوزة لخلق انطباعا أنه هاو وليس محترفا للتصوير .
حينما سألوه في الكيبوتس عما ينوي في المستقبل ، فاجاب أنه يريد العمل في الكيبوتس ، أو يفتح استوديو للتصوير ، ثم أخبرهم أنه ينوي الانضمام الى الجيش الاسرائيلي ، وذلك نال إعحابهم وزاد احترامهم له .
لم يستطع يعقوبيان الانضمام الى القوات الخاصة او المدرعات ، بل تم تجنيده في سلاح النقل بالجيش الاسرائيلي ، وتدرب على قيادة سيارات النقل الثقيلة في قاعدة عسكرية بمنطقة بيت نبالا بالقرب من مدينة اللد .
ولكن في هذه الفترة ولان الجميع كلن يعرف أنه يهوى التصوير ، استطاع ان يصور زملاءه وفي الخلفية معدات الجيش ومبانيه .
لاحقا عين سائقا لأحد الضباط الكبار في قيادة الدفاع المدني وهو : العقيد شمعيا بكنشتين ، وهي الوظيفة التي مكنته من الاطلاع على الكثير من المعلومات السرية التي ساعدت المخابرات المصرية في فهم العمل العسكري والتسليح بالجيش الاسرائيلي ، وطبعا استطاع الحصول على هذه المعلومات بعد كسب ثقة العقيد الكاملة فيه .
انجازات كيبورك يعقوبيان :
يعقوبيان تمكن من الحصول على معلومات خطيرة ،فقد استطاع الكشف عن قاعدة قوات خاصة سرية في متطقة جولس ، والأسلحة الثقيلة بها ، وعدد الدبابات .
_الكشف عن حصول اسرائيل على اسلحة حديثة منها صفقة طيارات الميراج والمستير ، بالارقام والتفاصيل، وهي صفقة أدارها موشيه ديان بنفسه.
_ ولكن أهم اعماله ، كانت الكشف عن مفاعل ديمونة النووي .
بعد عام كامل استطاع فيه يعقوبيان ارسال سيل من المعلومات الى المخابرات المصرية ، بدات تقل المعلومات شيئا فشيئا ، فهذا العقيد سيحال الى التقاعد قريبا ، فصدرت الاوامر الى كيبورك بانهاء مهمته في الجيش ، والاستعداد لمهام اخرى داخل اسرائيل .
التحق يعقوبيان للعمل مصورا باحد اكبر استوديوهات حيفا ، وتطورت سبل الاتصال بينه المخابرات المصرية ، فكان يجلس بحجرته ويدير مؤشر الراديو على إذاعة صوت العرب حيث يتلقى التعليمات المشفرة التي ترسلها له المخابرات المصرية من خلال البث الاذاعي .
ولكن في ديسمبر عام 1963 م فوجئ يعقوبيان بطرق على باب منزله من قبل رجال الشرطة المحلية والشاباك وقاموا بتفتيشه وإلقاء القبض عليه .
ولكن يعقوبيان لم يرتكب خطأ واحدا فكيف تم كشفه ؟
هناك اكثر من رواية :
رواية تقول انه احب فتاة فكشفته وهي التي ابلغت عنه ، كما رأينا في مسلسل رافت الهجان ، ولكنها ليست الرواية الادق او الاصدق .
فهناك رواية أخرى :
كانت إسرائيل في ذلك الوقت أسيرة للهواجس الأمنية ، ويحكمها رجال للمخابرات ،فتم مراقبة جميع الخطابات الصادرة من إسرائيل الى الخارج ، يفضها عمال البريد ، ويرسلون مايثير الريبة لجهاز الأمن الداخلي ( الشابك) .
من بين هذه الخطابات المشتبه فيها ، رسالة تم ارسالها الى عنوان في روما .
وقد كان معروفا لدى الاسرائيليين بأنه مكتب تابع للمخابرات المصرية ، لم تنجح محاولات الاجهزة الامنية الاولى في الكشف عن هوية ذلك الشخص .
وتم ضبط رسائل أخرى أرسلها الشخص نفسه الى روما .
وأظهرت الفحوصات المعملية التي أجريت للرسائل ، أنها كتبت باللغة العربية ، ولكن بالحبر السري ، بعدها تم التوصل آلى كيبورك وإلقاء القبض عليه .
حكمت المحكمة عليه باقصى عقوبة ، وهي 18 عاما سجنا ، لكنه ظل في السجن مدة عامين فقط ، وفي التاسع والعشرين من مارس عام 1966 م تم تسليمه للسلطات المصرية في الساعة التاسعة صباحا تحت اشراف رجال الامم المتحدة ،وبصحبته حسين حسن ، ومسعد خميس فدائيان فلسطينيان اعتقلا ، وهما في طريقهما لتنفيذ مهمة ، وفي المقابل تسلمت إسرائيل ثلاثة من اليهود اجتازوا الحدود المصرية عن طريق الخطأ .
وصفت الصحف الاسرائيلية كيبورك يعقوبيان بالحوت الأكبر والجاسوس الشامل .
وظلت أجهزة الأمن الاسرائيلية تضعه على قائمة أعداء اسرائيل ، المرشحين للتصفية الجسدية .