الوجه الآخر للزيني بركات

بقلم : الاعلامية / د هاله فؤاد
المسلسل التليفزيوتي الزيني بركات انتج عام 1995 م عن رواية للكاتب جمال
الغيطاني ، فهل شخصية الزيني بركات تاريخية حقيقية أم درامية ؟
الزيني بركات شخصية تاريخية حقيقية كان من أشهر محتسبي مصر .
ومن يتولى منصب الحسبة عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويراقب
الأسعار في السوق ، ويمنع إحتكار السلع ، ويجمع المعلومات عن الناس
ومايرددونه على ألسنتهم .
تولى بركات بن موسى منصب الحسبة بعد شنق على ابن أبي الجود الذي كان من
عامة الشعب ،ولكنه عمل مع الأمير قنصوه الغوري قبل توليه السلطنة وتقرب
منه حتى ولاه منصب الحسبة ، ولكن البعض دس الدسائس ليوقع بين السلطان
الغوري وعلي بن أبي الجود فأمر الغوري بالاستيلاء على أموال أبي الجود
وعهد لبركات بن موسى الذي لقب فيما بعد بالزيني بتعذيب أبى الجود للحصول
على ما خفى من الأموال ، ثم أمر بشنقه على باب زويلة وظلت جثتة معلقة على
باب زويلة لمدة ثلاثة أيام .
وكان على بن أبي الجود قاسيا فاسدا وظالما لدرجة أخافت الناس وأدخلت
الرعب في قلوبهم .
بعد شنق أبي الجود ولى السلطان الغوري بركات بن موسى منصب الحسبة ولكن
بركات رفض متعللا بخوفه من الله تعالى ، وخوفه من أن يظلم أحدا .
وأشيع هذا بين الناس الذين توسموا فيه خيرا وأنه سينقذهم من ظلم أبي
الجود ، فذهبوا إلى الشيخ أبو السعود الجارحي وكان شيخا جليلا مسموع
الكلمة فطلب بركات بن موسى وأقنعه بقبول الحسبة .
وأخيرا وبناء على رغبة الشيخ أبو السعود وجماهير الشعب قبل بركات منصب
الحسبة ، وأنعم عليه السلطان الغوري بلقب الزيني مدى الحياة .
جاء في نص المرسوم السلطاني بشأن تولية الزيني :
( لما فيه من فضل وعفة ، وأمانة وعلو همة ، وقوة وصرامة ، ووفور هيبة ،
وعدم محاباة أهل الدنيا وأرباب الجاه ، ومراعاة الدين ، كما أنه لايفرق
في الحق بين الرفيع والحقير ، لهذا أنعمنا عليه بلقب الزيني ، ويقرن
باسمه بقية عمره ).
اعتلى الزيني بركات المنابر وخطب في الناس أنه من له مظلمة فليتقدم بها ،
وأنه سيعدل بين الناس جميعا .
وكان فعلا يتفقد الأسواق ويعاقب صغار التجار لايهام الناس بأنه يحقق
العدل ويمنع الاحتكار ،تاركا كبار التجار والأمراء للحصول منهم على
الأموال .
تعلق الناس بالزيني بركات لدرجة أنهم لقبوه بالحاج وشبهوه بسيدنا يوسف
عليه السلام ، لما كان يبديه من طيبة وورع وحب للعدل .
أقام الزيني بركات نظام بصاصين موازي لنظام البصاصين التابع لدولة
المماليك والذي كان يتولاه الشهاب زكريا بن راضي .
في بداية الأمر كانت هناك خلافات وتوترات بينهما ، ولكن أخيرا تم الاتفاق
بينهما ، وأقاما إجتماعات بكبار بصاصين الدول المجاورة لتبادل الخبرات .
وبدأ الزيني في إقامة مشروعات تفيد الناس مثل مشروع الفوانيس الذي أضاء
لهم الشوارع ليلا . وألغى الضرائب ، ورفع الاحتكار عن بعض السلع .
ولكنه في الحقيقة كان يفعل ذلك على صغار التجار كما ذكرت سابقا ، لكن في
الواقع ترك برهان الدين بن سيد الناس الذي تركه يحتكر الفول .
فكانت صورته المثالية تخفي حقيقته الشيطانية ، واستطاع أن يخدع المصريين
بذكائه ودهائه ، وقدرته الفائقة على تزييف الحقائق واقناعهم بأن مايفعله
هو العدل بعينه ، واذا فعل ولو فعلا بسيطا فيه عدل تجدهم يهللون له .
كان الزيني بركات يطيع السلطان الغوري طاعة عمياء ، فقام بتعطيش القاهرة
أربعة أيام متتالية لتوفير السقاية للغوري .
ولكن على الرغم من ذلك فالعلاقة بينهما كانت تشهد العديد من التوترات
وصلت حد الاطاحة بالزيني من منصبه ، وسرعان ما تلاشت هذه التوترات وعاد
الزيني إلى منصبه بل أخذ صلاحيات أكثر وإمتيازات أكبر ، حتى أنه أصبح
المسؤول عن الذخيرة .
إستطاع الزيني خداع المصريين قادة ومثقفين وعامة الشعب لما حباه الله
تعالى من ذكاء وفطنة ودهاء ، فقد وصفه أحد الرحالة الايطاليين فقال فيه :
عيناه خلقتا لتنفذا في ضباب البلاد الشمالية ، في ظلامها المطبق ، لايرى
الوجه والملامح ، إنما ينفذ إلى قاع الجمجمة ، إلى ضلوع الصدر ، يكشف
المخبأ من الآمال ، حقيقة المشاعر ، في ملامحه ذكاء براق ، إغماضة عينيه
فيها رقة وطيبة تدني الروح منه ، في نفس الوقت تبعث الرهبة .
تولى الزيني بركات منصب الحسبة في فترة حساسة في أواخر عهد المماليك
وبداية عهد العثمانيين .

وعندما قتل السلطان الغوري على يد السلطان العثماني سليم الأول في معركة
مرج دابق عام 1916 م ، ولحقه بعد عام خلفه طومان باي الذي شنقه السلطان
العثماني على باب زويلة .
رأى العثمانيون أن المماليك أدرى بطبيعة هذه البلاد وأكثر قدرةعلى حكمها
، فاستعانوا بهم ، ولكن تحت إدارة الوالي العثماني لمراقبة المماليك في
حكمهم .
إختفى الزيني أياما بعد دخول العثمانيون البلاد ليظهر بعد ذلك وقد ولاه
السلطان العثماني حسبة القاهرة كما كان على عهد المماليك
والغريبة أن وجه الملاك الذي ظل يظهر به الزيني بركات غطى على وجهه الآخر
الحقيقي وجه الشيطان الذي كان ينفذ ظلمه على الناس وهو يوهمهم أنه قمة
العدل ، فقد استطاع أن يخدع المصريين طيلة الوقت .
منافيا المقولة الشهيرة :
يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت ، وبعض الناس كل الوقت ، لكنك لن تستطيع
خداع كل الناس كل الوقت .
ولكنه استطاع أن يخدع المصريين كل الوقت ، فهو لم يكن سوى جاسوسا للدولة
العثمانية ، وإمعانا في اتقان دوره وإخفائه عن قادة البلاد والشعب ، كان
يقوم بشنق أي إنسان يشتبه في إتصاله بالعثمانيين ليوحي للسلطان والرعية
بأنه حامي حمى البلاد .
والغريب أيضا هو موقف الناس من مجرد فكرة غياب الزيني بركات بن موسى عن
منصب الحسبة في العهد العثماني فيقول ابن إياس :
فلما أشيع أن بركان بن موسى قد إنفصل من الحسبة وتولى مكانه أحد أقارب
النائب مصطفى من العثمانية إضطربت القاهرة وشق على الناس عزله .
المخادع فقط يستطيع أن يكون ذا وجهين ، والأغبياء يصدقونه، والمجرمون يصفقون له .
يقول مارك توين :
لولا البلهاء لما حقق الآخرون أي نجاح ، نناور ونخفي أفكارنا ونكذب
ونتزلف ، وفي النهاية نحقق ربحا أكيدا ، لكن أرقى أنواع الخداع وأقواها
تأثيرا هو الخداع الذي نمارسه على أنفسنا .
لا أحد يخدعنا ، بل نحن نخدع أنفسنا .
فهل فعلا إستطاع الزيني بركات خداع المصريين لدهائه وذكائه وقدرته على
التلون وإخفاء كذبه ، أم أن المصريون هم من خدعوا أنفسهم رغبة منهم لبصيص
من أمل ينقذهم من ظلم أبي الجود ، فانخدعوا بحلو كلامه ووعوده البراقة
التي جعلته المنقذ والمخلص .
أم أن المصريون أخذوا على الذل والمهانة لدرجة أنهم لم يستطيعوا التفرقة
بين الصادق والكاذب المنافق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى