الفينومينولوجيا والانثروبولوجيا في رواية نجيب محفوظ

الفينومينولوجيا والانثروبولوجيا
في رواية نجيب محفوظ
كتب فرج احمد فرج
باحث انثروبولوجيا
إن الكتابة الكبرى قد تضع صاحبها فى مرمى نيران المجتمع، قبل نيران السلطة. والكتابة الكبرى هنا لا تندرج تحت بند االمحرمات أو الحديث فيها الموضوعات المسكوت عنها والشائكة ، كما اصطلحت الثقافات والمعارف العربية، عن المحرمات والتابوهات الثلاثة. إنها أعمق وأشمل وأكثر عمومية من كل ذلك.
نشر نجيب محفوظ 34 رواية وأكثر من 350 قصة قصيرة والعشرات من سيناريوهات الأفلام وخمس مسرحيات خلال مسيرته الأدبية التي استمرت 70 عامًا، تركزت أعماله حول حياة الشعب المصري، وكانت “ثلاثية القاهرة” التي نشرت في الفترة بين عامي 1956-1957 من أبرز أعماله.
نجيب محفوظ، أستاذ الرواية الواقعية و الرمزية، و عملاق الأدب العربي، مغامرة محفوفة بالمخاطر و التشعبات. المخاطر لأننا لا نأمن الوقوع في الخطأ و نحن نحاول تفسير ما أراد هذا العملاق أن يذهب إليه في كتاباته، و التشعبات لأن الأحداث الموصوفة تأخذنا إليها في النص الروائي نفسه. لكننا نخوض في هذه الروايات إيمانا ً منّا أن المحتوى النصي يخرج عن ملكية الكاتب الخاصة إلى الملكية العامة في اللحظة التي يطرح الكاتب النص للناس، فهو و إن سطر لهم مكنون نفسه يحيل ملكية النص لهم بمجرد اعترافه بقدرتهم على القراءة و الفهم و علمه أن نصه سيأخذ طريقة إلى قلوبهم و عقولهم لتأخذ العقول بإعمال الفكر فيه و تحليله ثم إدراكه حسب قدرات كل عقل و إيدولوجيته و خلفيته و ثقافته لكي يصل القارئ إلى قناعة ذاتية شخصية عن النص نفسه و يتجسد فهمه لهذا النص. و معنى هذا بالضرورة وجود أكثر من تفسير أو فهم للنص، ما دامت العقول كثيرة، فتتقارب (و لا أقول تلتقي) معظم التفسيرات عندما يزداد وضوح النص واقعيا ً ، و تتباعد عندما تحتل الرمزية الجزء الأكبر منه.
المستشرق الإسبانى “بدرو مارتينث” استشف علاقة منجزات نجيب محفوظ المتوطدة بأحياء القاهرة والصورة الحية التي سطرها في رواياته، فقال “كل الطيور اليمام التى تعبر وتسكن سماء القاهرة من الفسطاط إلى الزمالك، ومن الروضة إلى القلعة، ومن السيدة زينب إلى بين القصرين، ستغنى باسم نجيب محفوظ، وسيذهب معها محفوظ فى رحلته الأبدية والنهائية طائرا إلى مكان أكثر عمقا ورحابة فى قبة السماء إلى أحشاء الأرض، بلادك مصر، ستهدى كل الطيور بالطريق الذى سترشده أنت إليها”.
اتهمه البعض انه يستخدم كلمات تخدش الحياء فكلمة خدش الحياء كلمة غامضة ومدلولها يختلف من زمن لزمن ومن بيئة لبيئة، فمثلا فى البيئة السلفية، المرأة لو كشفت عن وجها يعد ذلك خروجاً عن الأخلاق وخدش حياء وأوساط أخرى مثل المذيعات يكشفن وجههن، لذا هى كلمة مطاطة حمالة مئة وجه، لا ينبغى أن تكون مادة قانونية، فالمادة القانونية تكون محددة ومنطوقها واضح .
روايات أديب نوبل، الأستاذ نجیب محفوظ، قدمت مادة ثرية لأحوال القوادات والبغايا في مصر، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكان من الواضح تركز بیوت عديدة في الإسكندرية، مثلما ھي الحال في قضیة ريا وسكینة، حیث كانتا في الأصل من القوادات الشھیرات.
آثر محفوظ الخلود بين موسيقى الحرف العربى بما نسجه من تأريخ روائى للقاهرة القديمة، ونقله صورة حية عن واقع الحياة فيها من مشاعر وعادات وتقاليد وثقافات وأزياء سادت فيها، ما يقيم ثمة تشابها بينه وبين المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتى، الذى عاصر الحملة الفرنسية فى القرن الثامن عشر الميلادى وكتب عنها “عجائب الآثار فى التراجم والأخبار”.
ثمة تشابه بين تأريخ عبد الرحمن الجبرتى ونجيب محفوظ للقاهرة مع اختلاف الحقب، إذ جاءت مصادرهما مباشرة من واقع الحدث الاجتماعى والسياسى، وإن ابتكر الأخير لكونه استطاع أن يقولب تأريخه فى فن الرواية؛ حيث جسد أحياء وشوارع وأزقة ومشربيات القاهرة فى أعمال روائية نابضة بالحركة ما بقى التاريخ.
واعتمد في كتاباته علي الظاهراتية أو الفينومينولوجيا هي مدرسة فلسفة تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة في خبرتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها. غير أنها لا تدعي التوصل لحقيقة مطلقة مجردة سواء في الميتافيزيقا أو في العلم بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم. يمكن أن نرصد بداياتها مع هيغل كما يعتبر مؤسس هذه المدرسة إدموند هوسرل، تلاه في التأثير عليها عدد من الفلاسفة مثل: هايدغر وسارتر وموريس ميرلو بونتي وريكور. وتقوم هذه المدرسة الفلسفية على العلاقة الديالكتية بين الفكرة والواقع. والظاهراتية مدرسة فلسفية اجتماعية ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر، ظهرت كرد فعل على المدرسة الوضعية. والمفكرون الظاهراتيون ينتقدون الوضعية لأنها تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي. وملخص أفكار هذه المدرسة هي أنها تهتم بالوعي الإنساني باعتباره الطريق الموصل إلى فهم الحقائق الاجتماعية، وخاصة بالطريقة التي التي يفكر بها الإنسان في الخبرة التي يعيشها، أي كيف يشعر الإنسان بوعيه.
الفينومينولوجيا هي دراسة الوعي بالظواهر وطريقة إدراكه لها وكيفية حضور الظواهر في خبرته، أو ما يسمى بالإعطاء (بالإنجليزية:Gegebengeit Givennes)، لكن هناك علم آخر يدرس الوعي بالأشياء وطريقة إدراكه لها وهو علم النفس، فهل تصبح الفينومينولوجيا إذن دراسة سيكولوجية للوعي ولكيفية إدراكه للأشياء؟ لا. لأن سيكولوجيا المعرفة تهتم بالحالات المعرفية باعتبارها حالات ذهنية، وترد هذه الحالات إلى الوظائف العصبية والسلوكية للمخ البشري، أما الفينومينولوجيا فليست مهتمة بما يصاحب عملية المعرفة من حالات ذهنية أو وظائف عضوية ترجع إلى الجهاز العصبي، بل بكيفية إدراك الوعي للموضوع ووصوله إلى معرفة موضوعية ويقينية حوله؛ أي بالاستعدادات المعرفية الموجودة لدى الذات الإنسانية والتي تمكنها من تأسيس معرفة يقينية، وهذه الاستعدادات ليست سيكولوجية، بل مرتبطة بالوعي الخالص قبل أن يتصل بأي خبرة تجريبية.
وقد غاص في علم الانثربوبولوجيا دون قصد بل كل معطياته في شخوصة وموضوعاته وتحليلاته ووصف الامكنه للبشر والحجر ودراسته لعلم الفلسفة وعلم الاجتماع جعله في تماس حقيقي للانثروبولوجيا وخاصة في احوال الناس ووصفهم وتعرضه للدين بطريقته غير المباشره وهو ما نسميه الاختباء خلف الاشياء عندما نتعرض للعقائد والحوارات العليوية والمناجات الصوفية .
إن ( الأنثروبولوجيا الدينية ) هي : دراسة متعمقة للشعوب و معتقداتها ، و كيف تعمل هذه المعتقدات في التشكيلة الثقافية لشخصية الإنسان في المجتمع المعني أو المجتمع تحت الدراسة ، و في هذا المضمار لا تشكل الأنثروبولوجيا الدينية دراسة لاهوتية ، و لا تشكل أيضاً دراسة حول الحقيقة الإلهية للدين ، بقدر ما هي دراسة للإنسان ، ما يعتقد به و ما يشكل بالنسبة له حقيقة مطلقة .
ان الديانة و المعتقدات ليست أشياء مادية نتعامل معها ، و ربما أن مثل هذه المفاهيم المعنوية تتشابك مع مفاهيم معنوية أخرى نتعامل معها كالعادة ، و القيمة ، و المعيار ، و الأخلاق ، و غيرها . جميع هذه مفاهيم غير مادية لا نعرفها إلا من خلال الكلمات و السلوكيات التي تدل عليها و تشير اليها .
فالمعتقد ليس شيئاً حسياً نستطيع وصفه فهو شيء لا يعرف إلا بما يعبر عنه صاحب المعتقد أو ما نفهمه من صاحب المعتقد نفسه .
و لقد وقع الأختلاف في الآراء حول مدى التفاعل ما بين الدين و الثقافة ، و هل أن الثقافة ترتكز على الديانة و أن الديانة هي أصل الثقافة ؟ أم أن الديانة هي احدى المكونات لثقافة الفرد و المجتمع ؟ . ذلك لأن الديانة في لحظة ما تصبح منسوجة بالثقافة ، كما و أن الثقافة تصبح مندمجة مع الرؤية الدينية بحيث يصعب الفصل فيما بينهما .
ان اهتمام الانثروبولوجيا الدينية يتركز على الخصائص الاجتماعية للدين . و عندما نتكلم عن الديانة هنا فإننا نتكلم عن ديانة مجموعة إنسانية لها ثقافة معينة كما هو الحال في الحديث عن الحضارة . و الديانة هي دائماً ديانة مجموعة معينة من الناس ، فحين نتكلم عن ديانة الفرد فإننا نفكر بديانة الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الفرد و التي يشاركها حضارتها أو ثقافتها . و من المؤسف له أن كثيراً من المفكرين يغفلون عن أهمية الارتباط بين ظاهرة الـدين و جماعة معينة مـن الناس .
وهناك دراسة الشخصية (شخصية البطل) باعتبارها عنصر هام من عناصر الرواية فالبطل هو الشخصية الرئيسية والمحورية في العمل الأدبي سواء كانت هذه الشخصية جيدة يحتذى بها أو سيئة يبتعد عنها والكاتب أو الروائي هو الذي يجعل منه شخصية رئيسية وذلك من خلال دراسة روايات الأديبين نجيب محفوظ وديستوفيسكي دراسة تحليلية بالمقارنة والوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بينهما. وصورة البطل في الرواية هي وليدة ظروف سياسية واجتماعية وبيئية وثقافية وهذه الظروف تساهم في إعطاء الشخصية أبعاد داخلية وخارجية نظرا لاختلاف صفات الأبطال من مكان إلى آخر كما تتنوع خصائص البطل في الرواية بين الشكل والمضمون فالبطل يعبر عن فلسفة الفرد من حيث الشكل والجوهر لأنه يمثل الشخصية الأولى في العمل الأدبي. بالإضافة إلى ذلك أهمية التعرف على مدى تأثر الأدب الروسي بالثقافة العربية ومكانة هذا الأدب بين الآداب العالمية ودراسة التأثير المتبادل بين الأدب والثقافة العربية ونظيره الأدب والثقافة الروسية من خلال إبراز أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافتين وانعكاس ذلك في الأعمال الأدبية.
رصد الوجود الإنساني في وجوهه الأساسية المتمثلة في: رعب الزمن ودلالة الموت، وفي ذلك “السرّ” الذي يعاني منه الإنسان ولا يستطيع تفسيره، وأفضت هذه الوجوه إلى مقولة استقرت في ثنايا عالم محفوظ الروائي، عنوانها الأكبر “الشر” في مراتبه المتعددة، التي تحايث الوجود كله وعوالم الإنسان المتنوعة.
“سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين”، بهذه الكلمات عبر نجيب محفوظ عن علاقة الحياة بعشاقها، ورسم بها طريقا للحياري واليائسين ترشدهم إلى حب الحياة على طريقة الشيخ “عبد ربه التائه” (بطله الرمزى المفعم بروح الحكمة الذى يتماهى معه محفوظ) فى “أصداء السيرة الذاتية”.
وإذ كان “عبد ربه التائه” أو فلنقل نجيب محفوظ استنطق بطله بهذه الكلمات التي ترصد حزن الحياة على عشاقها المخلصين، فإن الرواية “ديوان العصر الحديث” ستحزن طويلا على قيصر الرواية العربية وفيلسوفها، وهى تحتفي بالذكرى العاشرة لرحيله.
لم تغب عن محفوظ دراسته الفلسفية فهو تخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934، بعدها تنازعته عشيقتان؛ الفلسفة التى همَّ أن يكتب عنها أطروحته “الجمال فى الفلسفة الإسلامية”، والثانية الأدب، لكن غواية الأخيرة كانت أكثر جاذبية فتخطفته من غريمته الأولى وإن لم يهجرها، فزاوج بينهما فى جنبات الشعب الذى عرفه عن قرب فى الحارات والشوارع القديمة، ونحت تمثالا جبارا من الصلابة والجمال، صنعه بخامات شتى من الحرفيين الضائعين والفتوات المتغطرسين والدراويش والمتصوفين الهائمين.
مرت كتابات محفوظ بعدة مراحل وفق ما ارتأى الراوى، بدءا من عام 1939 فى “ثلاثية الواقعية التاريخية” (عبث الأقدار ــ رادوبيس ــ كفاح طيبة )، مرورا بعام 1945 حيث اختط لنفسه مرحلة الواقعية المعاصرة فسطر (القاهرة الجديدة وخان الخليلى وزقاق المدق) وانتقل بعدها للواقعية النفسية (السراب)، وتجاذبته “الواقعية الاجتماعية (بداية ونهاية وثلاثية القاهرة)، بعدها تلبسته الرمزية فنسج “الشحاذ وأولاد حارتنا”، وامتلكته الفانتازيا فأعاد حكايا “ألف ليلة وليلة” وروى ملحمة “الحرافيش” وفى نهاية مسيرته العملية استلبته الروحانية والصوفية روحه فتلاشى فى “أحلام فترة النقاهة” و”أصداء السيرة الذاتية”.