صناعة الخوف في حكم المجتمعات د.علي أحمد جديد

صناعة الخوف في حكم المجتمعات ..
د.علي أحمد جديد
لاتقتصر صناعة الخوف على الأنظمة الاستبدادية لضمانة سيطرتها في الحكم ، وإنما هي في الأصل استراتيجية تقليدية وممنهجة للتربية بشكل عام ، سواء كانت النماذج التربوية تقليدية ودينية أم حديثة وعلمانية ، فهي تسعى إلى صناعة الخوف عبر أدوات العقاب التي تسمح لنفسها باستخدامها .
وإن كافة المؤسسات التي تساهم في العملية التربوية بداية من الأسرة وصولاً إلى تقنيات المجتمعات الشبكية ، تُرسّخ هذه الصناعة بل وتصل إلى ابتداع الطرق العلمية الحديثة استمراراً في تطوير أساليب صناعة الخوف ، وفي ابتكار وسائله المختلفة . لأن الخوف لم يعد فقط مرتبطاً بحالة نفسية يفرضها الآخر لامتلاك وسائل القهر والاخضاع سواء الطبيعية منها ، كأفراد ، وأنظمة . وإنما وصلت الحالة النفسية إلى الخوف من الذات القائمة على اعتبار أنها كيان متعدد الهويات وخليط من التراكمات الثقافية التي تكونت بفعل القهر الخاص منه والعام معاً ، وبتقنيات قديمة وحديثة على حَدٍّ سواء بفعل القهر والاستبداد الخارجي ، وبفعل العقم الفكري وجمود النماذج الثقافية التي يتحرك العقل في دوائرها أو العقل العربي خصوصاً .
لقد أصبحت صناعة الخوف عملية داخلية ذاتية لدى الأفراد تبدأ بالخوف من الجسد ومن العقل معاً ، ويظهر ذلك من خلال الرقابة الذاتية على انفعالات الجسد والعقل بحيث لا نسمح لكليهما أن يتفاعلا مع احتياجاتهما ورغباتهما بشكل حر . (علماً بأن المنظومات الأخلاقية والدينية التي توكل لنفسها مهمة تأطير تلك الاحتياجات والرغبات ، يقتصر اشتغالها في مستويات الخطاب فقط ، أي أنه لا يتم تطبيقها فعلياً كما يدعي الخطاب العام . ولايسمح بنقاش مدى صلاحيتها أصلاً ) .
ومايزال الفرد منا يسعى إلى إخضاع ذاته لنمطية فكرية ولحركة جسدية فرضها تاريخ الاستبداد بكافة أشكاله ، بدءاً من استبدادية الأب في البيت ، والمعلم في المدرسة ، والشرطي في الشارع ، وهكذا حتى تنتهي بالنظام المستبد ، وهو ما يدفعنا إلى إيجاد الخوف لأنفسنا وبأنفسنا ، وحتى الخوف من ذواتنا والرقابة عليها لكي لا يتشكل في الفكر مفهوم الرفض الحرّ ويتعمّم حتى يصبح حالة جماعية وطاغية .
لقد بتنا نخاف من ذواتنا لأننا نخاف من الإفصاح عن رفضنا لهويتنا في مرحلة ما ، ونخاف من مواجهة أنفسنا !!..
وتكمن أهداف صناعة الخوف في إبقاء الأفراد رهينةَ طرق التفكير البالية غير العلمية عبر هيمنة أدواتها بالتشكيك الحاد في كل الأفكار التي يمكن أن تزعزع أركان ثقافة الاستبداد الفاسدة باستخدام المرجعيات التقليدية ، وكذلك التشكيك بالذات كعملية ذاتية نعيشها يومياً وساعة بساعة حتى ونحن نيام . فأصبحت ذواتنا هشة لا تحتمل حتى إهمال الأصدقاء الافتراضيين على مواقع التواصل الاجتماعي التي يتم من خلالها توجيه الحالة النفسية الناتجة عن إنتظارات الأفعال السلبية من الآخر ، أو من آلة الاستبداد (الخوف من الآخر) إلى إنتظاراتٍ قاتلة وبإصرار لأفعال سلبية مرفوضة من ذواتنا إذا ما حاولنا التحرر من سلاسلها الفكرية والثقافية .
ولأننا ما زلنا نخاف من تحرّر ذواتنا فإن عالم الحيوان – المتحرر من خوفه ومن مواجهة ذاته – سيتفوّق على عالم البشر الخالي من الإنسانية بفعل تأصل الخوف فيه .
وتعكس الحالة السائدة اليوم في السياسة وفي الاقتصاد كما في الثقافة ، الخوف والتخويف ، لأن الخوف والبقاء باتا المُحرِّكين الأساسيين للحياة . وعلى اعتبار أنهما يؤسسان في تحسين حالة البقاء وديمومتها ، فإنه لا يمكن تحسين الحياة في الحكم والسياسة وفي المؤسسات والمجتمعات كما في الثقافة بسلوك البقاء ، بل بسلوك تحسين البقاء عبر استمرار الخوف والشعور بالتوجس و بالتهديد . ففي الحالة الأولى تنكمش الأسواق والمدن وتغيب الثقة … وفي الحالة الثانية يكون التقدم ، والمؤكد أنه ما من ازدهار يمكن أن يتحقق في ظل الخوف .
لكن الأسوأ من الخوف هو حين يتحوّل الخوف نفسه إلى سياسة عامة .. بمعنى أن تستمد السلطات الحاكمة ، والأسواق ، والتجّار ، والنخب المجتمعية مصالحها من تفشي وشيوع حالة الخوف ، فيتحوّل إلى استثمار تعمل على إدامته وصيانته مؤسسات متقدمة توظف كل إمكاناتها ومهاراتها ومواردها في صناعة الخوف وتطوير أساليبه ووسائله . ويبدو أن السلوك السياسي والاقتصادي والفكري في مجتمعاتنا بات يغلب عليه الخوف ، ويعكس حالات الخوف والشعور بالتهديد بكل وضوح . فالحكومات ، والبنوك ، وشركات الاتصالات ، ومؤسسات المياه والطاقة والتأمين ، باتت تنشئ استراتيجياتها على أساس التخويف وعلى أساس زراعة الخوف وتنميته عبر التقنين الصارخ في كل شيء كالطاقة والدواء والرغيف ، وعبر رفع الأسعار .. وليس على أساس تحسين الحياة ، لأنها تجد مصلحتها في التخويف أكثر من مصلحتها في الثقة ، ولذلك تُمعِن في عداء واستعداء المجتمعات والطبقات البسيطة والمنتجة لحساب الطبقة العليا والمتنفذة .
كما أن التديّن الكاسح عن سابق إصرار في نشره وفرضه يعكس حالةً من الشعور بالخوف أكثر مما هو مستمد من الحكمة في محبة الله ، إذ لا يمكن فهم التناقض بين التديّن أو التأسلم السائد والمتنامي على نحو غير مسبوق أبداً في التاريخ الإسلامي كله ، وبين السلوك الاجتماعي والاقتصادي المشحون بالحاجة و بالتوتر والعدائية وبالتعصب والتطرّف والغش والتحرّش . كما لا يمكن في ظل غلبة تديّنٍ حكيم وجوهري أن تستمر الحالة المناقضة للدين في الوقت نفسه .
إن التفسير الواضح للسياسات الحالية – محلياً و عالمياً – ولسلوك الشركات اليومي والسلوك الاجتماعي العام هو أنه سلوك عدائي بامتياز . خاصة وأن المواطن بات يدرك أنه مجرد رقم لاحقوق له ولا وجود إلا في الإحصائيات وفي جباية الإيرادات للحكومات وللتجار المتنفذين لاغير . وفي ظل هذا التغيّر الهائل في الموارد لابد وأن تتغيّر الأعمال وأن تتغيّر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية تغيّراً عميقاً وكبيراً ، رغم أننا – كمجتمع – ما نزال في مرحلة انتقالية أو في عبورٍ من مرحلةٍ سيئةٍ إلى مرحلةٍ أسوأ . ومن الطبيعي جداً أن يسودَ الشعور بالخوف وعدم اليقين