أثر التصوف في الشعر . د.علي أحمد جديد

أثر التصوف في الشعر ..
د.علي أحمد جديد
(التَصوّف) سلوكٌ تَعبُّدي يتمُّ اتخاذه نهجاً وطريقة في العبادة وفي كل الديانات السماوية والموضوعة ، وهو سلوك يهدف في مقصده وغايته إلى توطيد العلاقة بالله عزَّ وجَلَ ، حتى صار التصوف مذهباً وعِلماً من العلوم التي تُعرف به أحوال تزكية النفس وشفافية الروح في تنقية الأخلاق ، وتعمير ما ظهر وما بطن في النفس الإنسانية طلباً لنيل السعادة . ويمكن اعتبار التصوف عِلماً يهدف في موضوعه وفي مقصده إلى إصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى وحده لا شريك له .
وقد كان الشعرُ مَعيناً للشعراء الصوفيين يَرِدِونَه للنهل من نبعِ التعبير الصادق ، وكان أداتهم المناسبة في التعبير لتصوير أدق حقائق الطريق التى تلوح لقلوب الأتقياء فى ارتحالهم الذوقى نحو منابع النور الإلهى ، سيراً بأقدامِ الصدق والتجردُّ عن الأكوان .. وطيراناً بأجنحة المحبَّة لاختراق سماوات الأحوال والمقامات المادية والدنيوية حتى تحطَّ عصا الترحال ، عند خيام التقرّب من الله تعالى .
ومن خلال النظر فى أشكال الآداب الصوفية ، نصِل إلى أنَّه هناك ثلاثة أشكالٍ رئيسة ، عبَّر من خلالها أصحاب الطريق الصوفىِّ عن أدقِّ رقائقهم وحقائقهم ، واستطاعوا بواسطتها أن يعبروا بها تلك الإشكالية الكامنة فى عجز اللغة العادية وقصورها عن ترجمة هذه المعانى بالدقة المطلوبة للتعبير . وكانت هذه الأشكالُ تتلخص في :
* – الكتابة النثرية بألفاظٍ اصطلاحية موغلة الاستغلاق ..
* – القَصُّ الرمزي المفعم بالتلويحات ..
* – الشعر الصوفي ..
وتأتي ضرورة بحث هذه الأشكال التعبيرية الثلاثة لكونها السبيل الوحيد في فهم التصوف وطريق الولاية بعمق ، وإن كانت للشعر أهمِّيته المتميزة والخاصة بين هذه الأشكال الثلاثة . لأن الشعر من حيث طبيعته وبما يتميّز به من ايجازٍ لفظي ودلالةٍ رحبة ودقيقة في التصوير ، خليقٌ بأن يُلمّحَ به الصوفيُّ إلى مكاشفاتِ الوصول ومشاهداتِ الولاية دون إسهابٍ قد يوقع أهل التحقيق فى مزالق اللغة ومضائق الفهم الفقهي المتسطح والفوقي ، لأن المتصوف الحقيقي والصادق يقول فى شعره ، مالا يقوله فى كلامه .
ولأن للشعر الصوفي في أبياته القصار وقصائده المطولة مكانته إلى هذه الدرجة من الأهمية ، فإن شعراء الصوفية قد ارتضوا الشعر قالباً تعبيريّاً منذ فجر معرفة التصوُّف وحتى اليوم ، ذلك لأن للتصوّف نمطاً مستقلاً من فنّ النظم الشعري الذي يتميّز بخصائصه التالية :
– إن أولى خصائص الشعر الصوفي وأبرزها ، هو ما يتعمّده الشاعر فى سلوك سبيل الرمز والكناية وضرب الأمثال ، ليُحمِّلَ البيت الشعرى بين طياتِ تفعيلاته ، ما لاحصر له من الدلالات الخاصة ، وهذا ما يصرِّح به شعراء الصوفية أنفسهم ، فنجد منهم (عبد الكريم الجيلي) يوضح ذلك بقوله :
مَفَاتيِحُ أَقْفَالِ الغُيُوبِ أَتَتْكَ فـىِ
خَزَائِنِ أَقْوَالِي فَهَلْ أَنْتَ سَـامِـــعُ
وَهَـا أَنَا ذَا أُخْفِي وأُظْهِرُ تَـارَةً
لِرَمْـزِ الهَــوَى مَا السِّرُّ عِنْدِيَ ذَائِعُ
وَإيَّـاكِ أَعْني فَاسْمعِي جَارَتىِ فَمَا
يُصَرِّحُ إلاَّ جَــاهِلٌ أَو مُخَــادِعُ
سَأُنُشِي رِواَيَاتٍ إلى الْحَقِّ أُسْنِدتْ
وَأَضْرِبُ أَمْثَـالاً لِـمَا أنَـا وَاضِـعُ
والرمز في الشعر الصوفي يميزه عن باقي أنواع الشعر وأجناسه لاحتوائه على الاصطلاحاتُ التى تفرّد الصوفيون في التحدُّث بها لكشف معاني أنفسهم ، والتى عنى بعض مشايخهِم بالكشف عن دلالاتها للمريدين جمعوها في قائمةٍ طويلة من المؤلَّفات ، مثل (الرسالة القشيرية ، واللمع ، وكشف المحجوب ، وكتابيْ “اصطلاحات الصوفية” لابن عربي والقاشانى) .
وكانت أبرزُ هذه الرموز وأكثرها وروداً فى الغالب من شعر الصوفيةِ ، هو الإشارة للذَّات الإلهية برموز العشق العربي المشهورات ، مثل (ليلى وهند وسلمى ولبنى) .. وغيرهن . وذلك ما نراه عند (عفيفِ الدين التلمساني) حين يريد التعبير عن آثار جمال الذات الإلهية فى الكون ، حين يقول :
مَنَعَتْهَا الصِّفاتُ وَالأَسْمَــاءُ
أَنْ تُرَى دُونَ بُـــرْقُعٍ أَسْمَــاءُ
قَدْ ضَلَلْنَا بِشَعْرِهَـا وَهْوَ مِنْهَا
وَهَــدَتْنَا بِهَــا لَهـَا الأَضْـوَاءُ
نَحْنُ قَـوْمٌ مِتْنَـا وَذَلِكَ شَرْطٌ
فِى هَـوَاهَـا فَلْييْأَسِ الأَحيَاءُ
وفي هذا الاشتقاقُ الرمزيُّ دلالة مباشرة على المفهوم التصوفيِّ في كَوْنِ كلِّ مظاهر الحسنِ من الوجود ، من خلال تجلياتٌ الجمال الإلهي الذاتي التي يراها الشعراء الصوفيون . فتلك المحبوبات العربيات لايتعدَّين كونهنَّ إشارةً حسِّية باهتةً للجمال الأزلي ، هذا الجمال الذى اشتركْن فيه بحسنِهنَّ ، وتواضعهنَّ عنه بتعالي جمال الذات عنهنَّ علوّاً كبيراً .
ويقول (عمر بن الفارض) :
وَتَظْهَـرُ لِلْعُشَّاقِ فِى كُلِّ مَظْهَرٍ
مِنَ اللَّبْسِ فى أشْكَالِ حُسْنٍ بَدِيعَـةِ
فَفى مَرَّةٍ لُبْنَى وَأُخْرَى بُثَيْنَةً
وَآوِنَةً تُدْعَى بِعَـزَّةَ عَزَّتِ
وَلَسْنَ سِوَاهَا لاَ وَلا كُنَّ غَيْرَهَا
وَمَا إنْ لَهَا فى حُسْنِها مِنْ شَرِيكَةِ
غير أنَّ هذه الرموز لاتكون بحالٍ من الأحوال مُسوِّغاً للوقوف عند هذه المظاهر والوجوه المُستَحسَنة ، وإنما هي تلويحاتٌ يوحي بها الصوفيُّ للعامَّةَ بأنَّ محبوبه إنسانيٌّ ، صوناً لسرِّ محبته من الشيوعِ فى غير أهلها ، وإشفاقاً على السامعين من أهل السلامة أن يُفتَتنوا بصريح أقواله . والحقيقة فإنه ليس للصوفي توقف ولا كلام ، إلا فى محبة مولاه عزَّ وجَلّْ ، ولهذا ارتجف (محي الدين ابن عربي) حين سمع أن ديوانه (ترجمان الأشواق) قد حُمِلَ على المعنى الظاهر ، وأنه اتُّهم بغزل ابنة شيخه تصريحاً .. فشرح ديوانه شرحاً ذوقيّاً ، كان فيه من بعض قوله :
كُلُّمَا أَذْكُرهُ مِمَّا جَـرَى
ذِكْرُهُ أَوْ مِثْلُـهُ أَنْ تَفْهَمَـا
مِنْهُ أَسـْرَارٌ وَأَنْـوَارٌ جَلَـتْ
أَوْ عَلَتْ جَاءَ بِهَا رَبُّ السَّمَا
فَاصْرِفِ الْخَاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا
وَاْطُلبِ الْبَاطِنَ حَتَّى تَعْلَمَا
* *
بدأ التصوّف في الشعر العربي ظُهورَه في القرن الثالث الهجري ، حين أخذ الشعراء الصوفية ينظرون إلى الخالق جَلّ جلاله بعين الحب والعشق ، وكان امتداداً لأشعار الفقهاء والنُسّاك مثل (الإمام الشافعي ورابعة العدويّة) ، وارتفع شأن هذا الشعر عند (ذي النون المصري) الذي تابع نظم الوجد الصوفيّ القائم على محبة الخالق بوصفه جوهر التصوف وأساسه . وكان مما يقول :
أموتُ وما ماتت إليكَ صَبَابتي
ولا قُضيتْ من صدقِ حُبِّكَ أوطاري
تحمَّل قلبي فيك ما لا أبثُّه
وإن طال سُقمي فيكَ أو طال إضراري
وتاريخياً فقد شهد التصوّف في الشعر العربي عصره الذهبي في القرنين السادس والسابع الهجريين ، إبّان (العهد الأيوبي) ومن بعده في (العهد المملوكي) .
ولأن التصوّف نزعةٌ دينيّة وجدت في مختلف الديانات والمذاهب ، وكما يراه (ابن خلدون) :
“العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله ، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها فيما يُقبِل عليه الناس من لذّةٍ ومالٍ وجاه ، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة” .
وكان ذلك عامًّاً عند السلفيين . وكانت تسمية (التصوّف) قد اشتُقَتْ من لِبس الصوف لأنَّ المتصوفين كانوا يلبسون الصوف للدلالة على الزهد ، وكان من أبرز الذين اقترن اسمهم بالزهد هو الخليفة الراشدي الخامس (عمر بن عبد العزيز) ، ومن التابعين كان (الإمام الحسن البصري) الذي كان يدعو إلى الزهد في متاع الدنيا والتقرب إلى الله تعالى ، فاقترب الزهد خطوة إلى التصوف ليصبح رياضة روحية عند (إبراهيم بن أدهم) الذي هجر أمواله ليعيش حياة متقشفة متفرغاً فيها للصلاة والعبادة ، ثم ارتقى إلى مذهب على يدي الشاعرة المتصوفة المعروفة (رابعة العدوية) التي دعت إلى فكرة الحب الإلهي في قولها :
أحِبُّكَ حُبَّين حُب الهوى
وحبّاً لأنَّك أهلٌ لذاكا
وأما الذب هو حبُّ الهوى
فشُغلي بذكرك عمَّن سواكا
وقد تطوّر التصوّف تطوراً كبيراً حين دخلته عناصر خارجية – غير عربية – من الفارسية والبوذية والفلسفة الأفلاطونية ، ليدور نزاعٌ مريرٌ بين المُتصوّفة وبين الفقهاء حاول (الإمام أبو حامد الغزالي) أن يُعيد التصوّف إلى عهده الأول ، وأن يعيد إلى النفوس الخوف من الله على طريقة شيخه (الحسن البصري) .
واتضحت ملامح الأدب الصوفي أوائل القرن الثاني الهجري أي مع بداية العصر العباسي ، ليستمر في العصور اللاحقة متميزاً بالسمو الروحي وبالمعاني العميقة التي تشير إلى الخضوع التام لإرادة الله سبحانه القوية ، كما اتصف بالغموض وبالمعاني الرمزية ، فتعدّدت أنواع هذا الأدب الزاخر بالابتهالات والحِكَم ، القصص الكثيرة والكتابات الصوفية التي تَميَّزَ فيها نوع الشعر الصوفي . وكان من أهم المضامين التي عرضها الشعر الصوفي :
1- الحب الإلهي : الذي عَرَّفَه الطوسي بأنَّه
“حال لعبدٍ نظر بعينه إلى ما أنعم الله به عليه ، ونظر بقلبه إلى قرب الله تعالى منه وعنايته به ، وحفظه وكلاءته له ، فنظر بإيمانه وبحقيقة يقينه إلى ما سبق له من الله تعالى من العناية والهداية وقديم حب الله له ، فأحب الله عزّ وجلّ” . وكانت (رابعة العدوية) أوّل من استخدم لفظ الحب صراحةً في أشعارها .
2 – الزهد : وقد تطوّر شعر الزهد مع تطوّر الحياة الروحية التي تحوّلت من الإقبال على العبادة إلى المبالغة فيها بالتزام ألوان لم تفرضها الشرائع كالتبل والانقطاع عن الدنيا ، وكان من هؤلاء (عبد الله بن المبارك والإمام الشافعي) ، كما ارتقى بشعر الزهد طائفة من الماجنين التائبين وعلى رأسهم (أبو النواس) فجاء شعر الزهد متميزاً بغزارته ، وبسهولته واستيعابه لكل صنوف الزهد ومعانيه :
ياربِّ إن عظُمت ذنوبي كثرةً
فلقد عَلمتُ أن عفوكَ أعظمُ
إنْ كان لايدعوكَ إلا مُحسِنٌ
فمَن الذي يرجو ويدعو المجرمُ
أدعوكَ ربي كما امرتَ تَضرُّعاً
فإذا رَددتَ يدي فمَن ذا يَرحمُ
مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجا
وجميلُ عفوكَ ثم إني مُسلِمُ
3 – الخمريات : كمااستلهمت الخمريات الصوفية صورها وأساليبها من الشعر الخمري ، وتورعت عن استخدام ما حفل به هذا الشعر من المجون والإباحية التي تُظهِرُ أن “نشوة الحب عند الصوفية يسمّونها سُكراً وهي تشبه في آثارها إلى حد كبير السُكر الحسي” ، فكان للخمر وضع متميّز في تراث التصوفية الأدبي ، إذ كانت لديهم رمز من رموز الوجد الصوفي . وللشاعر (عمربن الفارض) قصيدة شهيرة ، عُرفت باسم الخمرية ، وهي تعد أنموذجاً خالصاً لاكتمال الرموز الخمرية في الشعر الصوفي :
شربنا على ذكر الحبيب مدامةً
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرمُ
لها البدر كأسٌ وهي شمسٌ يديرها
هلالٌ وكم يبدو إذا مزجت نجمُ
ولولا شذاها ما اهتديتُ لِحانِها
ولولا سناها ما تصوّرها الوهمُ
وكما أنه لكل غرض من الأغراض الشعرية الذي يكتبه الشاعر خصائصه وسماته التي تُميِّزه عن غيره ، فقد شكّلت هذه السمات في مجموعها جوهر الأدب الصوفي والطابع العام الذي يُطبَع به . فكان الرمز هو الأساس الذي يقوم عليه الأدب الصوفي ، وقد عاب النقد على الشعراء المتصوفة إغراقهم بالرمزية وهو مادفع قصائدهم إلى الإبهام بالإيهام والغموض والتعقيد رغم أن الشعرالصوفي لا مجال فيه إلى التصنّع والتكلّف والمبالغة ، كما هو الحال في شعر المديح والرثاء والفخر ، بل هو شعرٌ بعاطفة صادقة تُترجِمُ ما يخالج النفس من المشاعر والأحاسيس ، حتى قَلَّ بين الشعراء من يهتم بالجانب الروحي في شعره كما كان الشعر الصوفي في ذلك .
ولأن التصوّف لا يأتي إلا بعد التنقل بين المراتب والدرجات ، ليصل المتصوّف إلى مرتبة تتيح له التعبير عن لذة الحال التي وصل إليها .
4 – الوحدة العضوية : تتميز القصيدة عند الشعراء المتصوّفة بأنها كلٌّ لا يتجزأ ولا تختلط فيه المواضيع والأغراض سوى الابتهال والتوسل إلى الذات الإلهية طمعاً بالتقرب والرضى ، وبعيداً عن أي غاية دنيوية قد يبتغيها غير الصوفي في ابتهالاته .
– للبحث بقية (أقسام الصوفية) –