دقت ساعة المتحف النحاسية العتيقة دقاتها الرتيبة ببطء عميق معلنة عن انتصاف الليل كدأبها القديم، حتى بعد أن شاخت تروسها وغزا الصدأ الأخضر أحشاءها وعلا هامتها الشامخة غبار ناعم نعومة الأفعى قبل اعتصار فريستها العاجزة، ولولا ذلك الطفل الصغير الذى يأتى لزيارتها مرة كل تسعة أشهر ليطعمها بعض قطرات الزيت الرخيص وينفض عنها قليلا من ذرات الزمن المتراكمة فوق قلبها المتهالك، لماتت منذ عقود.
تحتها وإلى اليمين منها تقريبا،إستقرت بثبات وهدوء لوحة متوسطة الحجم قد احتضنها برفق واضح إطار خشبي قديم ذو لون أخضر أيضا ،لكنه من صدق لونه يحسبه الناظر يكاد أن يورق ويحيا من جديد ما أن تمسسه قطرة من ندى ضلت طريقها أو همسة مديح عابرة يطلقها أحد رواد المتحف النادرين .
كانت اللوحة لفتاة ثلاثينية بيضاء ذات جبهة عريضة أبية، وشعر ذهبي ناعم وعينين رائعتين مترددتين وغاضبتين ،قد أبدع تفاصيلهما الرسام المجهول رسما ،مستعينا بألوان زيتية طبيعية ونقية ، أوشكت من نقائها أن تضئ المكان ،ورغم البراعة والجمال المنزويين فى كل ركن من أركان تلك المعجزة ،كان الشجن الموشوم على الخطوط والقسمات ينبعث مختلطا برائحة القماش الصامد الأصيل، ولم يكن ذلك ليخفى أبدا على العيون المبصرة والقلوب الفاهمة البصيرة.
ومع آخر الدقات النحاسية ،ولدت حشرجة قفل صدأ فشل أن يحرس الباب الكبير ،ليظهر من العدم (نبيل) ذلك اللص التعس ،والذى قرر احتراف سرقة المتاحف بعد أن فشلت موهبته العبقرية فى رسم اللوحات فى أن تؤمن له مايستر به عورة بطنه وفرجه ،فكان بسرقاته هذه كأنه ينتقم من الألوان والصبغات بطريقته الخاصة وينفذ قصاصا و ثأرا فيهما ومنهما لا ينتهيان،إضافة إلى إسكات أنين أمعائه البغيض.
لكن هذه المرة،ربما تخلت عنه تعاسته وهدته قدماه للوحة الحزينة.وبينما إمتدت يده الماهرة فى السرقة مهارتها بالرسم ،واقترب ينزعها من إطارها،نظرت إليه الفتاة بعينيها البريئتين وربما هو من نظر إليهما أولا، ما يهمنا هو أن أعينهما تلاقت فى ليلة باردة من ليالي يناير الحزين ولفهما ضوء خافت قد انبعث من مصباح كهربائى قديم حركته نسمات هواء ضعيفة انسابت من فتحة ضيقة محكمة بالسقف العالى ،فإهتزت شعاعات نوره كأنها ساقان لراقص أعرج قد أصيب في حرب ظالمة لا ناقة له فيها ولا جمل.
تسمرت قدماه أمام عينيها وشلت أطرافه،واغتالت نظراته كل تفاصيل وجهها وشعرها وجسدها ووشاحه الأحمر القانى بلون الدم كالذى تدفق جديدا عبر شرايينه الجديدة ، وامتدت عينه النهمة كذلك إلى تفاصيل البيت العتيق المرسوم بدقة خلفها وقد حمل رائحة الوطن والدفء فإنتشى فؤاده وسكن..
لم يدرك حينئذ ما أصابه، ولم يستيقظ من نوبته إلا وهو يهرول سريعا خارج المتحف ،لم يسرق شيئا ذلك اليوم سوى بعضا من نظرات الفتاة الحزينة وقسطا من سعادة وطمأنينة لا يعرف سببهما ولكنه يعرف جيدا أنه لم يختبرهما منذ أمد بعيد .
نعم إنه يدرك أن اللوحة ربما كانت من خيالات المبدع الغامض ،ولكن بالنسبة له على الأقل كانت الفتاة واقعا والمكان موجودا ،والزمان و الشعور جد حقيقي .
وفى الصباح الباكر استيقظ (نبيل) بعد نوم عميق مطمئن لم يألفه منذ سنوات صعبة موحشة مرت عليه مؤخرا كأسوأ ما تمر السنون ،استيقظ سعيدا وحذرا وهو لا يألو على شئ سوى إدراك فتاة المتحف والبحث عن حيها القديم.