علي جديد   …  السلام و دور تنمية الوعي الثقافي في الحفاظ على الهوية

    علي جديد   …  السلام و دور تنمية الوعي الثقافي في الحفاظ على الهوية                  

إن السعي الصادق في إنجاز وعي صحيح ، وتنمية ثقافية مستدامة وثابتة يتطلب فهم عالم اليوم بكل مكوناته بدءاً من الإنسان نفسه وفهم تاريخه وحضارته التي كانت وانقضت ، مروراً بواقعه اليومي الذي يعيشه في الحاضر . وحتى أن ذلك يتطلب دراسة مفهوم كيان الدولة التي ينتمي إليها ، لأن العالم المعاصر اليوم صار متنوعاً جداً وشديد التعقيد باقتصادياته وسياساته وبتاريخه الحضاري والثقافي وحتى العسكري أيضاً . وبات الإنسان اليوم يعيش هذه التعقيدات في كل مناحي حياته وخصوصيته ، وصار الفرد مخلوقاً وعالَماً قائماً بحدِّ ذاته ، يختلف عن غيره في ميزاته الفكرية وفي خصوصياته بعد أن انقسم العالم إلى وحدات ومحاور وأحلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية متصارعة ، وصار كل جزء من العالم تحت سيطرة دول وكيانات وأحزاب أممية عابرة للحدود في فكرها وفي سياساتها وإيديولوجياتها ، وصار كل فرد في هذا العالم ملتزماً بالانتماء إلى كيان دولته ، لأن العالم لم يعد يعترف بالإنسان إلا من خلال انتمائه إلى دولة وكيان يحتضنه ويعترف بشرعية وجوده المادي كشخص منذ ولادته وحتى لحظة موته .

ورغم أن (الدولة) هي وحدة سياسية تجمع أبناءها في كيانها وتحت رايتها ، إلا أنها اليوم لم تعد الوحدة المتفردة المكوّنة للعالم الذي يعيشون فيه بعد أن باتت هناك منظمات إقليمية ودولية – حكومية وغير حكومية – تمارس النشاطات الإنسانية السياسية منها والقانونية والاجتماعية والعلمية والصحية ، وحتى الدينية والتجارية الاقتصادية والتي أهمها تلك النشاطات الثقافية التي تثبت أو تشوّه الهوية والحضارة . ولايخفى على أحد أن هذه المنظمات التي باتت معروفة باسم (المجتمع الدولي) تسعى في جوهر أهدافها إلى إلغاء دور الدولة في استقلاليتها ، وفي قرارات علاقاتها الإنسانية والحضارية ، وصارت هذه المنظمات القوة الأكثر تأثيراً في العالم والتي أخطرها تلك المعروفة بتسمية (الشركات متعددة الجنسيات) وهي التي يقول عنها (جوزيف كاميللري) في كتابه (أزمة الحضارة) :

” إن تزايد وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات دفع بميزان القوة في العالم إلى أن يتحرك على نحو ثابت لمصلحة هذه الشركات في الوقت الذي تتجرد فيه الدولة تدريجياً من سلطاتها في ممارسة الحكم بعد أن تحولت الشركات متعددة الجنسيات إلى قوة من القوى المتحكمة في مجرى التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وصار دورها واحداً من أكثر التطورات دراماتيكية في هذا العصر ” .

وتعود أهمية هذه الشركات إلى أنها مؤسسات تمتلك قدرات تنظيمية دقيقة ومادية هائلة وتقنية تكنولوجية خيالية تؤهلها في إدارة العالم اليوم كوحدة مترابطة تؤدي إلى إلغاء دور (الدولة الوطنية) ذلك لأنها تقوم على هدف تحويل العالم إلى سوق واحدة وموحدة وإلى تدويل المجتمع الإنساني بعد سلخه عن حضارته وتجريده من تاريخه لتحقيق الهيمنة في الإنتاج والاستهلاك ، كما تسعى إلى السيطرة الكاملة على أنشطة الدول الوطنية اقتصادياً وتحويلها إلى نشاط عالمي بإدارتها يتعدى سلطات الدولة (الوطنية) . 

وقد تحوَّل مدراء هذه الشركات إلى نموذج من نظام مركزي يدير العالم بشكل تنسيقي موحَّد ، لأنها تنفرد بإنتاج السلع الأساسية المختلفة والمتراوحة بين سلع غذائية وتقنية .. وحتى الصواريخ العابرة للقارات ، وبلغت أحجاماً ضخمة وخيالية في الهيمنة على الإنتاج الزراعي والصناعي حتى بات إنتاج الواحدة هذه الشركات يفوق الإنتاج القومي لدول القارة الأفريقية مجتمعة بكل مافيها من الثروات الطبيعية !!. وصار العالم اليوم يعيش حالتين متناقضتين تماماً بين حالة الحرب الدائمة وبين حالة البحث الطوباوي عن سلام يستحيل تحقيقه . 

يقول (هيدلي بول) في كتابه (الفوضى الاجتماعية) :

” إن سمة الفوضى وليست سمة النظام هي السمة البارزة في السياسات الدولية اليوم ، ومن الملاحظ غياب النظام كلياً عن السياسات الدولية ، وما الحديث عن نظام في العلاقات الدولية سوى رغبة مثالية غير قابلة للتطبيق لأنها لم تكن قائمة في أي وقت من الأوقات ” .

ونستشف من ذلك أن غياب السلطات المؤسسية وقواعد السلوك الإنساني قد أفقد الكثير من الدول المقدِرَة على حماية نفسها بنفسها وعلى إمكانية حفظ أمنها ومصالحها الوطنية والقومية في عالم تسعى فيه الدول العظمى إلى الهيمنة الكاملة التأثير . وفي هذا يقول (جون ستنسجر) في كتابه (الأمم العظيمة) :

” لقد هوى الإنسان اليوم إلى أعمق أعماق الهاوية بعد أن بلغ أقصى درجات التطور والرقيّ ، فهو قد ابتكر أشد أنواع الأسلحة فتكاً و أكثرها قدرة على إحداث الدمار والإبادة الجماعية منذ (هيروشيما) ، في الوقت الذي يفشل فيه فشلاً ذريعاً في السيطرة على العديد من الأمراض أو الحدّ من شبح المجاعة وانتشار الأوبئة . كما أنه في الوقت الذي يسعى فيه كل إنسان لخوض معركة ضارية ضد غيره متجاهلاً وقوع كارثة عالمية تنهي الوجود البشري ، نراه يفتخر بلهاثه نحو تكديس أضخم قوة مُدمِّرة في التاريخ البشري والإنساني ويدّعي أنه يسعى بإخلاص من أجل إحلال سلام واستقرار في العالم . 

لذلك فإن كان لدى الإنسان اليوم الكثير الذي يفخر به من الإنجازات ، فإن لديه الأكثر الذي يخجل منه ، لأن الإنسانية لم تعد قادرة على إيجاد حلّ نهائي لوقف الصراعات وحلّ مشكلات الحياة ” 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى