الإستبداد   د. علي أحمد جديد

الاستبداد ..

                       د. علي أحمد جديد

معروف أن الاستبداد هو شكل من أشكال الحكومات التي يحكم فيها فرد أو كيان واحد بسلطة مطلقة .

ولغوياً فإن كلمة “الاستبداد” في القاموس العربي تعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه ، ومن هنا جاءت عبارة :

       “إنما العاجز من لا يستبد” 

وبالطبع فإن هذا يكون معنى الاستبداد المقترن بالعدل والذي يفقد فعاليته في العجز عن تطبيقه . أما الاستبداد من دون عدل فيكون طغياناً وديكتاتورية وظلماً . وغالباً مايكون هذا الكيان المستبد فرداً أو حزباً طاغية .

أما باللهجة العامية ، فإن كلمة مستبد تنطبق بازدراء على أولئك الذين يستخدمون السلطة في قمع المرؤوسين ، ليكون المستبدون دائماً فوق القوانين مهما كانت مخالفاتهم وانتهاكاتهم للأعراف والقوانين . وغالباً ما ينطبق مصطلح (المستبد) على رئيس دولة أو رأس حكومة بهذا المعنى ، وهو مصطلح يشابه الدلالات التحقيرية المرتبطة بمصطلحي طاغية وديكتاتور .

ولغةً يُعرِّف معجم (لسان العرب) الاستبداد بالتالي : 

استبد بفلان ، أي انفرد به دون غيره . 

أما المعجم (المنجد) في اللغة العربية المعاصرة فيعرّف كلمة استبد : 

أي حَكمَ بأمره ، وتصرف بصورة مطلقة ، غير قابلة للاعتراض . 

كما يعرّف نفس المعجم كلمة استبداد : 

تعسف ، تسلط ، تحكم .

ويورد المعنى الثاني للكلمة :  

فرض الإرادة من دون مبرر . 

أما موسوعة السياسة ، فتورد تعريف كلمة استبداد بأنها : 

حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى مصلحة المحكومين .

وتضيف موسوعة السياسة تعريفاً للشيخ (محمد عبده) لنفس الكلمة :

“المستبد عرفاً من يفعل ما يشاء بغير مسؤولية ويحكم بما يقضي به هواه” .

أما في التعريف الغربي فكلمة المستبد (despot) فهي مشتقة من الكلمة اليونانية “ديسبوتيس” التي تعني رب الأسرة ، أو سيد المنزل . وقد خرجت من حدود النطاق الأسري ، إلى عالم السياسة لكي تشير إلى نمط من أنماط الحكم الملكي المُطلَق تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مماثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة الواحدة . ويكون معنى الاستبداد دلالة على انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو بالسلطة المطلقة دون الخضوع لقانون ولا لقاعدة إنسانية ولا أخلاقية ، ودون النظر إلى مصالح المحكومين (الشعب) ولا إلى رأيهم في اختيار وتحديد كيفية حياتهم . وهذه السلطة المستبدة يتأثر بها الفرد أو بعض الأفراد هي تلك التي تمارس الحكم دون أن تكون هي ذاتها خاضعة للقانون الذي لا يمارس سلطانه إلا على الشعب .

ويمكن أن تشير كلمة الاستبداد الانكليزية (Oppression) إلى نظام الحكم الاستبداديّ الذي يهيمن على الشعب عَبْر سيطرة حكومته على السياسة وعلى الاقتصاد في الدولة ، والتي تنكِر على الشعب أي حقوق إنسانية أو مدنية من خلال قوانين و عقوبات قاسية ومجحفة ، وتكليف شبكات سرية من المخبرين المتملقين الذين يقدمون التقارير لجهازهم الحكوميّ الفاسد .

كما يشير الاستبداد أيضاً إلى أساليب ماكرةٍ وأقل وضوحاً في الإخضاع ، وهو مايمكن تسميته (الاستبداد الاجتماعي) لأنه يمثل شكلاً خبيثاً وفعالاً من التلاعب والهيمنة ، حيث لا يُبتلى الجميع بالظلم والتبعيّة ، بل يكون باُستهداف مجموعات مخصصة من الناس بغاية تهميشهم اجتماعياً للتقليل من تأثيرهم على هيمنة الحكومة وتسلّطها . 

ويميل العلماء في تحليل تعددية العوامل الاستبداد إلى مجموعة تصنيفات كالاستبداد الاجتماعي الثقافي و الاستبداد المؤسساتي (القانوني) ، والاستبداد الاقتصادي . 

وفي الاستبداد السُلطويّ الطاغي تستخدم الحكومات الاستبدادية القمع في إخضاع الشعب ، لأنها تريد أن يشعر المواطنون بالخوف وبالتوجس من أي اعتراض أو إزعاج للسلطة يؤدي في نتيجته إلى السجون المظلمة بدون محاكمات . ومثل هذه الحكومات تضطهد الناس باستخدام التقييد والسيطرة والإرهاب واليأس (أدوات الطاغية) وبفرض عقوبات قاسية على التصريحات التي تعتبرها من التصريحات “غير الوطنية” تصل إلى مستوى “خيانة الوطن” لأن المستبد يعتبر نفسه هو الوطن وبمرتبة الإله الذي يُحرَّمُ المَسُّ بذاته القدسية ، ويعمل على تطوير قوة شرطة سرّية مخلصة وماهرة ترعى حظر حرية التجمع أوحرية التعبير أوحرية الصحافة والسيطرة على النظام النقدي والاقتصاد ، وأيضاً على سَجن أو قتل النشطاء الذين قد يشكلون تهديداً لسلطته ، ويسعون كي يصبح الاختلاف الفكري والتعبير عنه سمة من سمات المجتمع ككل ، بل ضرورة لتقدّمه وازدهاره ، لأن التسابق في انتقاد ما يُطرَح من آراء وأفكار هو وسيلةٌ لتهذيبها وضمانٌ لتطوّرها ، ويساعد على انتشار ثقافة تشجيع قبول الرأي الآخر و الانتقاد البَنّاء والسليم بدلاً من تجنبه ، حيث يعتبرها المفكرون و أصحاب الرأي وسيلة لصيانة آرائهم وسَدِّ الثغرات حولها ، لأن التخلّف الديمقراطي يغلب عليه طابع الاستبداد بفرض الآراء وتقييمها واستهجان محاولة النقاش حولها أو تفنيدها أو نقدها . وهناك كثير من الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الرأي ويَدَّعون امتلاك الحقيقة والرأي الصائب دون الحاجة إلى مناقشة ما يثار من اعتراضات حول طروحاتهم وآرائهم ، وكذلك تحريم الدفاع عن الآراء المخالفة لأنهم يرون بأنها آراء فاسدة أو لا قيمة لها . 

ولأن المستبد يطلق الأحكام على كل المواضيع ، مهما كانت مختلفة ، نيابة عن الآخرين ، فهو يحاول إجبارهم على الإيمان بها دون السماح لهم حتى بسماع ما يمكن أن يطرحه الرأي المعارض ، فتتفشى ثقافة الاستبداد الفكري ويسهل تخوين كل من يعارض الرأي . كما يمارِسُ هذا النوعَ من الاستبداد الفكري أغلب السلطات الدينية ، أو الاجتماعية ، أو السياسية ، حتى يصل إلى أن يمارسه الأفراد أيضاً ممن لا تتسع عقولهم لتقبل النقد والآراء المخالفة . 

إن ممارسة الاستبداد الفكري دون إطلاق حرية الفكر والمناقشة والتعبير وتقبّل الآراء المختلفة والجدل حولها بمحاولات بائسة لتكريس سلسلة مترابطة من الاستبداد سياسياً حزبياً ، واجتماعياً ثقافياً ، ودينياً عقائدياً رغم تقدم المجتمعات على كل الأصعدة والتي ترمي وراء ظهرها المقولة الشعبية :

” الاختلاف في الرأي لايُفسِد للودّ قضية ” .

إذ أن الاختلاف واحترام الرأي دليل على الرقي في احترام صاحب الرأي ولوكان مخالفاً ، ودليل على العقلانية السليمة في الشخص ، وفي المسؤول ، وفي المجتمع ككل .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى