حقيقة التصوّف .. بقلم/ د.علي أحمد جديد

حقيقة التصوّف .. بقلم/ د.علي أحمد جديد

       (2)

                 

يعتبر (الحسين بن منصور الحَلّاج) واحداً من أشهر الصوفيين وأكثرهم إثارة للجدل عبر التاريخ . ولد في البيضاء في فارس عام 244 هـ/ 857م ، ثم انتقلت أسرته إلى (واسط) في العراق ، وقتل في (بغداد) عام 309 هـ/ 922م على يد رجال الخليفة العباسي (المقتدربالله) على نحو بشع حيث جلد وصلب وقطعت جثته وأحرقت وألقيت رفاته في نهر دجلة .

وتضاربت الأسباب وراء قتله ، ما بين أسبابٍ سياسية وأسبابٍ دينية ، لكن الراجح أنها تعود إلى آرائه التي كان يخرج بها إلى الناس، من دون أن يتمكنوا من فهمها ، وبالتالي اعتبروها “كفرا” و”زندقة” ، وكان أبرزها ماقالوا أنها مقولته : 

“أنا الحَقّ” .

ورغم انقسام الناس بين مؤيد ومعارض له فقد شكّل (الحلّاج) مصدر إلهام لأجيال من العرب وللمسلمين على مرِّ العصور . وما تزال تجربته الروحانية وأفكاره الفريدة التي تجاوزت عصره ، تتمتع بنفس القوة حتى اليوم .

ثمة مسألتان رئيسيتان في فكر (الحلّاج) ، ولا تخلو أي من أقواله أو أشعاره منهما . الأولى هي وحدة كل ما في الوجود ، والثانية أن الطريقة الوحيدة لإدراك هذه الوحدة تتم عبر إفناء “الأنا” أو “الذات” الفردية في “الأنا” أو “الذات” الكلية ، أو حسب مصطلح الحلاج “استهلاك ناموسية الإنسان في لاهوتية الله” .

شكّلت رغبة الحلاج في الانعتاق من ربقة الجسد والسماح لروحه بالانطلاق مجدداً هاجساً دائماً لديه ، وكانت شديدة إلى درجة أنه لم يمانع في قتله .

 ويرى (الحلّاج) أن ثمة “واحداً” فقط في الوجود ولا شيء سواه ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وأن جميع الموجودات هي تعبيرات عن هذا “الواحد” ، مثل أشعة الشمس فهي رغم تعدّدها فإن مصدرها واحد . ورغم أن مصدر كل شعاع هو الشمس لكن هذه الأشعة لا تقوم مقام الشمس ، وهي ليست مساوية لها ، كما أنها ليست “مماسة أو ممازجة لها”.

ويقول أيضاً :

إن حواسنا ، بما في ذلك العقل ، تتعامل خطأ مع تلك الموجودات باعتبارها موجودات منفصلة وقائمة بذاتها ، بينما يرى هو أن ذلك مجرد وهم ناجم عن قصورنا في إدراك الحقيقة والتي يقسمها إلى ثلاثة مستويات : 

“ضوء المصباح علم الحقيقة ، وحرارة المصباح فيها حقيقة الحقيقة ، والوصول إليه حَقّ الحقيقة” .

وقد سأل أحدهم الحلاج : 

“كيف الطريق إلى الله تعالى؟..

 فقال : الطريق بين اثنين وليس مع الله أحد”.

وهو يقصد بذلك أن الله موجود في كل مكان ، ولا يوجد طريق للوصول إليه ، لأن الطريق يقتضي وجود اثنين وليس مع الله أحد . ولكن يمكن إدراك الله مع ذلك من خلال النظر إلى سائر المخلوقات ، لأن النقطة أصل كل خط ، والخط كله نقط مجتمعة . فلا غنى للخط عن النقطة ، ولا للنقطة عن الخط . وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها . وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين . وهذا دليل على تجلّي الحقّ من كل ما يُشاهَد وتَرائيه عن كل ما يُعايَن . ومن هذا قلت : ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيتُ اللهَ فيه”.

وشكّلت رغبة الانعتاق من ربقة الجسد والسماح لروحه بالانطلاق مجدداً هاجساً دائماً لدى (الحلّاج)، وكانت هذه الرغبة شديدة إلى درجة أنه لم يمانع في قتله ، بل كان يستفز القتلة للإقدام على ذلك . وكان في مناظراته يصرح بآراء يعرف أن ظاهرها يستفز العامة ، رغم أن باطنها مختلف تماماً .

ومن ذلك ماقالوا بأنه قوله 

“أنا الحق” ..

ففي الظاهر يُفهَم منها أنه يدّعي الألوهية لنفسه ، لكن الحقيقة أنها كانت محاولة منه لنفي نفسه وإثبات وجود (الله) . ففي اللغة لا نستطيع أن نذكر (الله) من دون أن نقع في ثنائية “القائل والمخاطَب”.

ودائما هناك “أنا و هو” ، بينما هناك “واحد” فقط .

الطريقة الوحيدة لتجاوز ذلك هي فناء الذات في (الله) ، مثلما تعود القطرة إلى الماء . وبهذا المعنى كانت مقولة 

“أنا الحق” .. هي الطريقة الوحيدة للإشارة إلى (الله) تعالى من دون الوقوع في الثنائية أو في “الشرك”.

وتظهر معاناة الحلاج الشديدة مع الجسد في مناجاته المستمرة مع الله سبحانه بعد أن كشف له أموراً سُتِرَت عن أغلب الناس . وفي ذلك يقول:

 

أأنت أم أنا هذا في إلهين  

      حاشاك حاشاك من إثبات اثنين

 

هوية لك في لائيتي أبداً  

       كلي على الكل تلبيس بوجهين

 

فأين ذاتك عني حيث كنت أرى فقد تبين ذاتي حيث لا أين

 

وأين وجهك مقصود بناظرتي 

  في باطن القلب أم في ناظر العين

 

بيني وبينك أنّيٌ يزاحمني 

           فارفع بأنّيك أنّيي من البين

 

وبنى (الحلّاج) دعوته الروحانية على أسس إنسانية شاملة ، من دون تعصب لدين أو لجنس أو لقومية بعينها

وبحسب معاصريه فقد كان متشوقاً للحظة الخلاص التي طالما أرادها وتنبأ بها دائماً . وفي اليوم الذي قتلوه فيه ضحك كثيراً ودمعت عيناه وهو مصلوبٌ على منصة إعدامه ، ومما قاله : 

“هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك. فاغفر لهم ، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتُليتُ بما ابتُليتُ ، فلك الحمد في ما تفعل ولك الحمد في ما تريد”.

وهناك جانب آخر في فِكر (الحلّاج) وهو جانب جدير بالاهتمام لنظرته الكونية ، مثله في ذلك مثل (جلال الدين الرومي) ، حيث بنى دعوته الروحانية على أسسٍ إنسانية شاملة من دون تعصب ، وقد سافر إلى مناطق ما وراء النهر ، وإلى الهند والصين وتعرّف على أساتذة التأمل في (اليوغا) واطلع على علومها ومارسها عندما عاد إلى بغداد . وكان لافتا موقفه من وحدة الديانات كلها وضرورة عدم التفرقة بينها . 

“يروى عن عبدالله بن طاهر الأزدي أنه قال : كنت أخاصم موسوياً في سوق بغداد وجرى على لفظي أن قلت له : يا كلب . 

فمَرَّ بي الحسين بن منصور(الحلّاج) ، ونظر إليّ شزراً وقال : لا تُنبِح كلبك ..

وذهب سريعاً . فلما فرغت من المخاصمة قصدته ، فدخلت عليه ، فأعرض عني بوجهه . فاعتذرت إليه فرضي ثم قال : 

– يا بني الديانات كلها لله عز وجل ، شغل بكل ديانة طائفة لا اختياراً فيهم بل اختياراً عليهم . فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه وكَفَر . واعلم أن الموسوية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الديانات هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغايرة ، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف” .

 كان (الحلّاج) مُتصوِّفًا من أكابر الصوفيّة ، ويُعدُّ رأساً من رؤوسهم في عصره . حوكِمَ في عهد الخليفة العباسي (المقتدر بالله) ووُجِّهَت له تُهَمٌ كثيرة تتعلّق باعتقاده وبسعيه لقلب الحكم ،

وسعى لتأكيد هذه التهم جماعة من أعداء الحلّاج ، على رأسهم وزير الخليفة الأكبر (حامد بن العباس) ومن ورائه بعض المشايخ الكارهين الذين لهم نفوذهم عند الوزير . وقد كانت التُّهَم تتراوح بين إدّعائه الألوهيّة ، والتآمر مع القرامطة ، ومقولته المنسوبة إليه التي قالها في إحدى مناظراته : 

” أنا على الحَقّ “

حيث أوصلوها إلى الخليفة (المقتدر بالله) بأنه يدّعي الألوهية ويقول :

“أنا الحَقّ” .

واختلف الناس فيها بين مُثبتٍ وبين نافٍ لها ، أما الذين أثبتوها فقد تأوّلوها ونسبوا الكفر للحلّاج ، وبقي (الحلّاج) يُحاكَم بهذه التُّهَم نحو ثمانية أعوام تقريباً وهو في سجنه .

 كان أتباع (الحلّاج) كُثُراً من العلماء ومن العوام على حَدٍّ سواء ، وكاد سجنه أن يزلزل الحكم العبّاسي كله نظراً للظلمِ الواقع عليه ولمخبة الناس له ، وقامت ثورات (تظاهرات) تدعو لإنقاذه من السجن .

وبينما القاضي (أبو عمر المالكي) ، وهو القاضي المعروف بعلمه ، يتحاور مع (الحلّاج) بشأن مسألة وَرَدَت في كتاب للحلّاج ، قال القاضي (أبو عمر) جملته :

– كذبتَ يا حلّال الدم . 

فتلقّف الوزير (حامد) هذه الكلمة ، وأمَرَ القاضي بكتابتها وأرسلها إلى الخليفة ، يُعلمه بأنّ القضاة قد أباحوا دم (الحلّاج) .

ولمّا استلم الخليفة كتاب وزيره ، لم يملك من أمره شيئاً ، وطلب الحلّاج مقابلة الخليفة ، ولمّا سمع الوزير بذلك ألحّ أن يكون حاضراً في تلك المقابلة ، فجاء الحلّاج وعليه الأصفاد ، وحدّث الخليفة ونصحه بإقامة العدل ، وإنفاذ روح شريعة الله تعالى في البلاد ، ونحو ذلك مما يوعَظُ به السلاطين .

بعدها انتقل (الحلّاج) للحديث حول قضيّته ، وأثبت للخليفة بطلان ما توجّه إليه من أحكام ، وأنّه يشهد بأنّه لا إله إلّا الله وبأنّ محمَّداً عبده ورسوله، وأنّه -أي الحلّاج عبدٌ من عباد الله ، وهو لايدّعي الألوهية ولا يُشرك بالله شيئاً . وختم كلامه بأنّه يقول بما قال به (إبراهيم الخليل) – عليه السلام – بأنّه قد وجّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين – وخرج من مجلس الخليفة ، وقد ترك الخليفة متردّداً بالحكم عليه .

وأُصيب الخليفة بعد هذه المناظرة بالحمّى، فادّعى الوزير بأنه يخاف من افتتان الناس بالحلاج أن يعتقدوا بأنّ الله تعالى قد نصر (الحلّاج) عليه ، فأرسل إلى الخليفة يحثّه على الإسراع في إصدار الحكم النهائي على (الحلّاج) ، فأرسل الخليفة أنّه إلى القضاة بوجوب تنفيذ حكم الحَدّ عليه وقتله .

سيق (الحلّاج) نحو سجنه ليُحضَّرَ للقتل وكان يناجي ربّه ويدعو بما فتح الله به عليه من العلم ، ومن جملة دعائه الذي حُفِظَ عنه : 

“نحن بشواهدكَ نلوذ ، وبسنا عزّتك نستضيء ، لتُبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك ، وأنت الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إله” .

حتى أنَّ بعض الجُند الذين كانوا يحرسونه قالوا بأنّه صلّى ركعات في ليلته تلك ، فقرأ القرآن كاملاً في ركعة واحدة ، ثمّ أوصى من كان حاضراً عنده من الجند ، وجعل يتواجد ويقول من شعره ما يقول في تلك الليلة الأخيرة له ، ولم يبدُ عليه الخوف، ولكنّه كان مستبشرًا يريد الموت في سبيل الله ، عسى أن يكون له في هذا القتل شهادة .

ويقول المؤرِّخون عن واقعة قتله :

“لمّا كان صباح يوم الثلاثاء لسبعٍ بقينَ من ذي القعدة سنة 309 للهجرة جيء بالحلّاج موثوقاً ويصحبه العسكر إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام ، فطلب سجّادة وصلّى ركعتين ، ثمّ دعا ربّه بدعاءٍ قد حفظته بعض الكتب يدور حول الطلب من الله تعالى بالعفو عن قتلته ، فهم لا يعلمون بأنّهم مخطئون .

فجُلِدَ مائة جلدة ولم يمت ، فقطعوا يديه وعلّقوه على الصليب يوماً أو يومين ، ثمّ قطّعوا قدميه وتركوا دماءه تنزف منه وهو مايزال مصلوباً على صليبه ، ولاحت شرارة ثورة بدأت في الأفق نصرةً للحلّاج المصلوب ، ولمّا وصل خبر الثورة للخليفة ، أراد العفو عمّا تبقّى من (الحلّاج) ، ولكنّ الوزير (حامد) أبى ذلك وأصرّ أن يُقتَل (الحّلاج) من فوره ، فكان أمر الخليفة بقتله ، فتلا الوزير أمر الخليفة بقتل الحلّاج ، وقالوا إنّ آخر كلمة نطقَ بها الحلّاج هي قوله : 

“حسب الواجد إفراد الواحد له” .

وبعد هذه الكلمات ضُرب عنقه ، وأُحرِقت جثته وأُلقيَ رمادها في نهر دجلة . ورُويَ ، وقد تمَّ إثبات ما روي على ألسنة الكثيرين من الشهود ، بأنّ دم (الحلّاج) لمّا وقع على الأرض كتب “الله الله” وكأن في ذلك إشارة لتوحيده وبراءته مما نسب إليه ، كما يقول المناوي في “الكواكب الدريّة” .   

ترك (الحلّاج) وراءه العديد من الكتب ، وذُكر بأن له ستة وأربعين كتاباً ومنها : 

(طاسين الأزل ، الجوهر الأكبر ، الشجرة النورية ، الظل الممدود والماء المسكوب ، الحياة الباقية ، قرآن القرآن ، الفرقان ، السياسة والخلفاء والأمراء ، علم البقاء والفناء ، مدح النبي ، المثل الأعلى ، القيامة والقيامات ، هُوَ هُوَ ، الكبريت الأحمر ، الوجود الأول ، الوجود الثاني ، اليقين .. وأخيراً التوحيد) .

ومن أشعاره في التصوّف التوحيدي بحبّ الله تعالى قوله :

 

ما لامني فيك أحبابي و أعدائي

          إلّا لغفلتهم عن عظـم بلوائي

تركتُ للناس دنياهم و دينهـم

       شغلاً بحبـّك يا ديني و دنيائي

أشعلتَ في كبدي نارين واحدة

  بين الضلوع و أخرى بين أحشائي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى