إضاءة على رواية النبطي ليوسف زيدان .. إعداد الكاتبة / نادين الشاعر

إضاءة على رواية النبطي ليوسف زيدان .. إعداد الكاتبة / نادين الشاعر

 

فوق الدكات والمصاطب ،فوق أحجار ونقوش البرابي تفاصيل دقيقة حيكت منها عباءات ماريا وملامح وجهها طفولتها صباها المبكر جدا في حياة أولى وصف لنا فيها الكاتب الكبير باحترافية وسلاسة ولغة بسيطة لكنها جزلة عميقة ركب فيها الصور بخفة الحاضر بين الشخصيات في ذلك الزمن مما يدل على عمق التجربة الفلسفية والاطلاع المتمكن على تلك الحقبة الزمنية حيث استجر لنا ظروف هذه الجماعة من الناس وبدائية إيمانهم وفطرتهم وبساطة عيشهم واتصالهم الروحي مع خالقهم دون وساطات أو حواجز لأنهم جماعات تعيش في كفور بعيدة ومتباعدة تحت سلطة معينة تتجنب الخوض في خصوصيات الجماعات المجاورة بدرجة مُستنكرة وتتهم كل خارج ومتواصل بتلميحات مسيئة .

شخصيات كفر النملة هذا الكفر النائي القابع تحت سلطة دينية بدائية غير ناضجة تلتبس فيه الأخلاقيات بحسب تفكير الشخصيات القابعة في عالم الفطرة والجهل ،رجال الدين الذين يمتازون بهيئات معينة تمثل صورة الغالبية منهم والتلميح إلا أن ايمان هذه الفئة مبني على معطيات معينة يشوبه الكثير من الشك والظنون ..

إضافة إلى شخصيات نساء هذه الكفور المبنية على ديباجة معينة تمتاز بها أيضا المرأة بمجمل أماكن تواجدها خاصة في الأماكن المغمورة وطريقة تفكيرها المبنية على تأمين فرص نجاة لأطفالها الفتيات بالزواج المبكر والبنين بفرص عمل بعيدة عن الإنهاك والتعب ، ورغم كل هذا فإن معظم هؤلاء النسوة يتركن الفتيات في مرحلة معينة من أعمارهن يسرحن دون أي رقابة أو رادع .

ماريا الفتاة الحالمة التي فقدت بالزواج صديقتها المقربة وبيت أسرارها الحميم ، وتجرعت ألم الفراق والفقد والمعاناة من الوحدة ضمن مناطق مأهولة بالصمت ،تجربتها الحميمة الأولى واستسلامها لأول عابر سبيل أشعرها بأنها مختلفة أو ناضجة ،فاختبرت ملامح الأنوثة في كينونتها (جسداً وروحاً),

ترك لنا الكاتب أن نقررَ ماقد حدث ذلك اليوم مضيفا إلى تفاصيل المكان الذي شهد على تجرع مارية اللذة لأول مرة رائحته التي رافقت طويل أيامها بعد هذا الحدث في أوقات اختلائها بنفسها .

خطوبة ماريا وإقبال العرب عليها تفاصيلهم التي أدركتها من خلال مراقبتها ساحة السوق لأعوام طويلة برفقة صديقتها المقربة التي فرق بينهما زواجها وقيام والدتها بإحضار العريس العربي. القادم مع قافلة أهله التجارية المحملة بالكثير الكثير من تفاصيل البادية وأماكن مرور القافلة ، حضر العريس مع ذويه شاهدته ماريا تمنت رجلا آخر أن يكون هو خاطبها ، تفاصيل تقاليد العرس العربون والهدايا والعطايا التي تمنح للعروس وأهلها تشابه الكثير من هذه التفاصيل على مر العصور .

اختبار ماريا لمحاولة مجابهةالخطر في رجل يجب أن يكون مؤتمن لكنه فاجأها بتصرفه الأرعن ومحاولته النيل منها ومن كرامتها التي استماتت في الدفاع عنها وطرده مهزوما ذليلا ،

بدء الأحداث السياسية في المنطقة المواجهة بين الروم والفرس والإتفاقيات توجيه الأنظار نحو حقبة معينة وهي الدعوة الإسلامية التي كانت تنتشر في شبه الجزيرة العربية وتأثير الغزوات على المناطق المجاورة .

انبعاث الخوف بين عامة الشعب وانقسام الناس في المذهب الواحد وتخوين رجال الدين لأقرانهم وإدعاء كل طرف منهم أنه الفرقة الناجية .

صور لنا الكاتب الحالة العامة لهياج الشعب وخوفه من المجهول القادم ودور الكنيسة ورجالها في التخفيف من وطأة الحدث وتهوين الأمر على عامة الشعب ودعوتهم للاحتماء بالعراء لاكتفاء شر أي هجوم محتمل .

وصول العريس قبل موعده عقد قران ماريا ورحيلها مع القافلة ،تحديد صفات المكان والطريق اكتشاف ماريا لصفات زوجها الخارجية وظهور شخصية جديدة مؤثرة في حياة ماريا وهي شخصية أخو الزوج (النبطي)الرجل الذي يملك صفات الأنبياء وهدوءهم ، فارس أحلام ماريا الذي يكبرها باعوام ويناديها ياخالة .

الرحلة بكل تفاصيلها تشعر أنك فوق أحد الجمال أو أنك ربما تعاني من مايعتري ماريا من آلام الركوب الطويل على البهائم ،غبار الطريق ولسعات البرد الصحراوية والحر أصوات القافلة كل هذا وأكثر بين السطور ،عميرو اليافع المتوهج بالحركة والانسيابية صديق الطريق المحتمل للصبية للعروس ومؤنس وحدتها ودليلها السياحي في اكتشاف الدرب.

بقاء الزوج غريبا ،واعتكافه على النظر إلى العروس من بعيد ،محاولته الاقتراب الجدي للإبقاء على رهبة الطريق والرفيق .

انشقاق القافلة من أجل اختصار الطريق والتقرب الكبير بين ماريا وأخو الزوج عبر التواصل الروحي معها واستمالتها بكل ذلك الهدوء الذي يطغى على شخصيته ،تفاصيل الطريق كأنك تسمع شرحا تفصيليا للوحة مرسومة بالألوان الزيتية تفاصيلها دقيقة جامحة جميلة واضحة ،إنها قدرة الكتاب على توظيف الحواس لدى القارىء والعبث بمخيلته عبر جره إلى إغماض عينيه والابجار في المكان والأصوات والصفات .

وصول العروس إلى مضارب القبيلة ،الاستقبال الحاشد والاسم الجديد ،محاولة الاحتفاظ بوجوه الجميع والتماس ما سيحدث في قادم الأيام. ام البنين لكثرة إنجابها الذكور سميت بالاسم تلتقي مع ماريا أو ماوية في نقطة واضحة وهي تفضيل النبطي على الجميع ،

عرض لنا الكاتب هنا تعددية التوجهات الدينية وديمقراطيتها ، عرض لنا شرائح مختلفة وجودها أعطى المكان قيمته وزخمه وتأثيره ،دور المرأة في هذا المجتمع ،مكانها الشاهق والمنحدر أيضا ، المرأة في أغلب التوضيحات كانت تابعا وليست كائنا بشريا متكاملا ،إنما خاضعة لسيطرة الرجل والمجتمع الذي تغذيه المرأة نفسها بالقيم والعادات.

العرس وتفاصيله البدوية الشيقة ،المرحلة الأصعب في حياة ماوية وطريقة فض بكارتها العلنية واقتحام خصوصيتها ،

عدم التقبل والندم والصمت الحتمي ،كل هذا وأكثر والبدء بمرحلة انتظار الاكتمال بالولادة وتعليق احتياجات الروح البشرية على شماعة الإنجاب المستحيل في حالة ماريا وتعويم السبب لأن الرجال جميعهم بنجبون فقط النساء لا يستطعن .

في مرحلة ما ارتباط ماريا بليلى والتلميح دائماً إلى خصوصية العلاقة بينهما وبحث كل منهما عن أخر في الأخرى ،ربما تعويضا أو ربما فطرة بشرية ساهم بظهورها المجتمع والظرف الآني للشخصيات .

الحديث يطول جدا لا استطيع إغفال اي حدث ولو بسيط لان النص متكامل مبتدع وشكله الأدبي منمق ويبدو متكاملا.

الشخصية الرئيسية تكاد تكون وهمية هي فقط تبرز من خلال تأثيرها في الشخصيات حولها.زيارة بنيامين والوداع الأخير بينه وبين ماريا وهذا الالتصاق الروحي الأبدي برابط الإخوة رغم التباعد الزماني والمكاني.

بدء الأحداث السياسية وتوظيف شخصيات تاريخية لها اسمها الكبير في الأحداث ،اضطربات المنطقة التي لم تخمد يوما ولن تخمد بدء انتشار الإسلام والمسلمين ،التفاصيل الكثيرة و التوصيف الدقيق واللغة الجزلة والمتينة السهلة والقريبة والانسيابية ، فقط الإسهاب وصف الأحداث ،كان كثيفا ومعقدا ، إغفال أحد هذه الأحداث ليس تقليلا إنما اختصارا .

بدء الدعوة الإسلامية وانتشار الدعاة ،مفاوضات عمرو بن العاص مع عرب الأنباط للتوجه إلى مصر وبدء التمهيد لدخول الاسلام والتعريف به.

تأثير الحياة السياسية على خريطة المنطقة ،وعلى الحياة الاجتماعية والاتجاهات الشخصية للشخصيات ،بغض النظر عن الموافقة والاختلاف لرؤية الكاتب من حيث تضمينه مقاطع تاريخية حاول توظيفها في خدمة النص المتفق عليه إبداعيا ولكن لسنا بصدد البحث حول مصداقيتها لأن الشرح يطول والتاريخ دائما يكتب برؤية المنتصر والقارىء مهما حاول أن يكون حياديا إلا أن العاطفة والانجذاب الأدبي قد تتمكن من التغلب على الموضوعية .

 

النهاية كم حاولت ماريا استجرار العشر سنوات الأخيرة من عمرها في هذا المكان بين الصخور والكهوف واكتشافها ضياع عمرها لأن كل ماحدث كان وهما سرابا مجرد حلم ستصحو منه عارية من ذاتها من قلبها وحتى من نطفة تزرع في رحمها تشعرها أنها على قيد النبض وليست مجرد رقم ليس له أي قيمة ،

نظرة المجتمع الأزلية للوجود الإنساني رغم محاولة الكاتب العظيم الدلالة على أن المرأة هي الوجود هي المكان والزمان والأخلاق ، إلا أن المجتمع سعى دوما لطمس هويتها وملامحها خدمةً لمصلحة الذكر .

الرحيل والغبار وأصوات الماشية ودبيب القافلة على الرمل كل هذا وأكثر في المشهد الاخير مشهد اكتشاف ماريا لخيبتها ولتورطها بحب محرم حاولت إقصائه داخلها بحثت عنه في ذكرياتها وفي تفحم أحداق ليلى في رائحة منبعثة من أقصى أماكنها الدفينة من حجر البرابي ،جعلتها على مفترق قرار هل تمضي أم أنها ستستدير وستعود أدراجها لتختار نفسها ذاتها وحسب …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى