مثل معظم شباب بلدي، تخرجت وما زلت آخذ مصروفي من والدي. لم أجد عملًا بدراستي، ولم أجد عملًا من دونها؛ لأني لم أبحث عن عمل!
مُهاب خارج بيتي، مُذَل في داخله. ليس ذلًا بالمعنى الذي ربما يُراودكم، لكني أشعر بقلة احترام؛ تقريبًا لأني لم أعمل إلى الآن، ومر على تخرجي خمس سنوات!
أيقظتني والدتي بعد العصر، أو قبل المغرب، لم أحدد الوقت. قالت: مالِك، قم، الدنيا صارت ليل. قلت: مالكِ أنتِ، أتريدين مني أن أجعلها نهار!
ولم أسمع بعد ما قلته سوى فرقعة كف على كف، فرفعت الغطاء ونظرت.. فلم أجد أمي.
حقًا أظلم الجو.
خرجت من البيت، لا أدري إلى أين، لكن بعد وقت قليل من السير، وجدتني عند (تِرعة) قريبة من بلدنا، وإلى جوار قرية أخرى.
أشعلت سيجارة وقعدت على شطها أنظر لماءها الراكد. أظلم الجو أكثر، وكان صفًا من شجر الصفصاف على جانبي الترعة. وكنت أجلس في مساحة حوالي خمسة أمتار بين شجرتين.
“وبعدين بقى في الملل دا؟ تعبت!”
قلت وأنا ألقي بعقب السيجارة في الماء بعدما لسعتني نارها. فشعرت كأن أحدًا خلفي، إذ أن هواءً ساخنًا ضرب ظهري، وأحسست بشيء من الأُنس فجأة، فنظرت ولم أجد أحدًا، فابتسمت سخرية من نفسي. ثم فجأة…
“مش هتكون تعبان أكتر مني.”
ليس مجرد إحساس بوجود أحدهم، لا، هذا صوت أحدهم!
نظرت عن يميني، من حيث أتى الصوت، فوجدت كيانًا يشكل شابًا، لكني لم أتبين ملامحه في الظلام. ارتحت، كأن وَحشتي ذهبت ومللي قد حل عني. وأنا أنظر للماء، طلبت منه أن يحكي.. وحكى….
حقًا إنّ مشاكلي بقدر ما هي معقدة وموجعة، لا شيء يُذكر أمام ما أخبرني به الشاب من مشاكل وهموم وآلام.
حمدت الله في نفسي على حالي، واعترفت لنفسي أخيرًا بأنني المذنب الوحيد في حق نفسي. وقررت بمجرد أن تشرق الشمس بالبحث عن عمل. وفجأة اختفت مشاكلي، إلّا واحدة ظهرت للتو.. عندما نظرت عن يميني، للشاب، وكان يتحدث.. فلم أجده!
تذكرت وأنا أرقد نحو البيت، أن تلك الترعة، والمساحة الفارغة بين الشجرتين، تلك البقعة بعينها، قيل فيها حكايات وحكايات، عن جرائم قتل وأرواح وأشباح.
الغريب أنني كنت أضحك؛ لم أستمع وأستجب طوال فترة قعودي في البيت من بعد تخرجي لأهلي وأصحابي وكل من يعرفني من الناس، واستمعت واستجبت، لشبح!