(أليسار) الملكة السورية التي أسست (قرطاج) لتصبح أمبراطورية الفينيقيين السوريين في الشمال الأفريقي وحوض البحر الأبيض المتوسط حرمها أخوها (بيغماليون) من حكم مملكة “صور” بعد وفاة أبيهما ، فركبت البحر لتؤسس الامبراطورية الفينيقية السورية الجديدة .
والتاريخ الحقيقي الصادق تسطره إنجازات صنّاع أحداثه سواء كانوا من الرجال أو النساء ليبقى خالداً ماخلدت الدنيا بأبنائها إلى يوم البعث اليقين . ويذكر المؤرخون عن الفينيقيين بأنهم شعب مغامر وبحارة ماهرون ، تَحدّوا أخطار البحار بحثاً عن الثروات واستكشاف آفاقٍ وأقطار جديدة .
حتى وصلوا إلى القارة الأمريكية في أقصى الغرب الكوني ، فتناثرت وتكاثرت مرافقهم وأسسوا مراكزَ تجاريةً في نقاط استراتيجية على مدى حوض البحر الأبيض المتوسط . وكان الإغريق ومن بعدهم الرومان ، وبسبب منافستهم وغيرتهم من الفينيقيين القرطاجيين في وقت لاحق ، ليتركوا لنا العديد من المصادر والمراجع في العصور القديمة ، ممثلين الفينيقيين كتجار ماكرين وذوي طبيعة ملتوية بدافع الطمع .
يعود تأسيس مدينة “قرطاج” التي جاءت تسميها من الفينيقية “قَرْتْ حَدَشْتْ” “المدينة الجديدة”، إلى العام 814 ق.م. وكانت أكبر وأشهر مركز تجاري سوري و فينيقي على الإطلاق ، والذي تحوّل إلى مدينة عظيمة وعاصمة إمبراطورية ثرية تنافس الحضارات المحيطة القريبة منها والبعيدة وخاصة (روما) .
تقع قرطاج في تونس الحالية بالقرب من العاصمة وعلى بعد 20 كلم . وكأغلب شقيقاتها الشرقية ، بُنيتْ المدينة فوق هضبة مرتفعة وعلى محاذاة شاطئ البحر الأبيض المتوسط وصارت ميناء طبيعياً متميزاً . وكانت “قرطاج” في الأساس محطة على طريق عودة القوارب الآتية من إسبانيا(ايبيريا) المحملة بالثروات وبالمواد الخام .
من أهم الكتابات عن تاريخ وأسطورة تأسيس “قرطاج” هو ماكتبه المؤرخ الروماني(جوستين) الذي يقول :
” مع وفاة (متان) ملك صور الذي أوصى بالحكم إلى أولاده (بيغماليون و أليسار) شقيقته المشهورة بجمالها وبحكمتها . رفض أهالي صور هذه المقاسمة وطالبوا بأن تكون مدينتهم ذات سيادة موحدة . وأثار هذا الأمر انشقاقاً داخل العائلة المالكة ، وخاصة بعد زواج أليسار مع عمها (اشرباس) الذي كان يتمتع بصلاحيات كبيرة توازي صلاحيات الملك بحكمه رئيس كهنة معبد (ملكارت) . كان (اشرباس) يملك ثروة شخصية طائلة بالإضافة إلى ثروة المعبد التي كانت أيضاً تحت تصرفه . ولأن (بغماليون) كان حريصاً على الاستيلاء على سلطة وثروة عمه ، قام بقتل عمه وزوج أخته (أليسار) التي شعرت بالخطر وبأن حياتها أصبحت مهددة من أخيها الطامع بثروتها وثروة عمه والانفراد بحكم “صور” دون اي شريك ، فقررت الهرب . ولعدم إثارة الشكوك عند شقيقها ، أعلنت له رغبتها في أن تستقر معه في القصر الملكي وأنها لاتتطلع إلى تملكٍ ولا إلى حكم . واستجاب (بغماليون) إلى طلبها على أمل أنها سوف تأتيه بكل ما ورثته بعد موت زوجها ، فأرسل إليها سفنه وخدمه لمواكبتها إلى القصر .
مع قدوم الليل ، أمرت (أليسار) اتباعها بنقل الأكياس المليئة بالكنوز إلى عنابر السفن ، ومن ثم تعبئة الرمال بأكياس أخرى أوكلتها إلى خدام أخيها (بيغماليون) الملك لإيداعها على سطوح السفن دون أن يدروا ما تحتويه الأكياس من الرمال ، وتوجهت مع العديد من وجهاء المدينة وكهنة المعبد الذين كانوا على علم بمخطط ملكتهم والرافضون لحكم (بيغماليون) . وبعد إبحارهم وفي عرض البحر ، أمرت (أليسار) اتباعها برمي الأكياس المعبئة بالرمل في وسط المياه ، بادعاء تخليدها لذكرى زوجها الراحل والتوسل عليه لقبول هذه التقدمة وليستعيد ثروته ومكانته عند الآلهة في العالم الآخر . فما لبث أن دب الخوف في قلوب خدم الملك (بيغماليون) لاعتقادهم أن هذه الأكياس مليئة بالكنوز التي تركها زوجها ، وقرروا مرافقة الأميرة في رحلتها خوفاً من غضبة (بيغماليون) الملك وانتقامه . وبعد ذلك توجهت المراكب إلى قبرص للتزود بالمؤن . عند وصولهم إلى الجزيرة ومرورهم بالقرب من معبد فينوس ، أمرت أليسار بخطف ثمانين من الفتيات العذارى اللواتي كن في خدمة المعبد من أجل تزويجهن من الرجال الذين رافقوها . وهكذا باتت (أليسار – ديدون) متشردة تحدّت البحار وذهبت بحثاً عن “مدينة جديدة” حتى حطت سفنها على ساحل الشمال الأفريقي المشاطئ للبحر الابيض المتوسط .
عند نزولها سعت (أليسار) إلى توطيد الصداقة مع السكان المحليين الذين كانوا فرحين بوصول هؤلاء الغرباء ورأوا في ذلك فرصة لعقد الصفقات التجارية وللمقايضات المتبادلة . فتفاوضت (أليسار) مع الملك المحلي لتلبة طلبها بالحصول على أرضٍ لأنشاء مدينة عليها ، فأبى الملك طلبها وعرض عليها أن تأخذ من مملكته أرضاً لاتزيد مساحتها عن ما يعادل جلد ثور واحد فقط . وافقت (أليسار) على ردِّ الملك أمام استغراب جميع الحاضرين وخاصة الملك نفسه ، لكن الأميرة وبحكمتها ابتكرت طريقة للحصول على مساحة كبيرة من الأرض لبناء مدينتها التي كانت تحلم بإنشائها على حوض البحر الأبيض المتوسط . فأمرت بجلب جلد ثور كبير وتقطيعه إلى شرائح رقيقة جداً كالخيوط ، وذهبت إلى هضبة على شاطئ البحر ، وطلبت من اتباعها بإحاطة هذه الهضبة بشرائح جلد الثور . وبفضل هذه الحيلة ، حصلت الأميرة على مساحة أوسع مما كانت تطلبه في الأساس . ومن هذا الواقع أطلقوا اسم (بيرصا) على تلك الأرض نسبتة إل جلد الثور .
توافدت الأقوام المجاورة إلى تلك المدينة الجديدة ، على أمل عقد الصفقات التجارية وتحقيق المكاسب من خلال مقايضة بضائعهم وسلعهم وبيعها إلى هؤلاء الفينيقيين الأجانب الوافدين من أرض كنعان البعيدة ، واستقر العديد من تلك الأقوام القادمة في المدينة الجديدة بتخطيطها وبأبنيتها مع الفينيقيين . وجاء أيضاً وفد من (أوتيك) محملين بالهدايا بحكم الصلة التي تربطهم بالفينيقيين أهل و أقارب يشجعونهم على توسيع مدينتهم الأعجوبة في سرعة إنشائها وانتشار أخبارها في كل الشمال الأفريقي حيث قادهم المصير واللجوء . أراد الأفارقة أيضاً الحفاظ على هذا الوجود التعددي ، وبفضل موافقة وبركة الجميع ، تأسست “قرطاج” بعد أن تقرر تسديد جزية سنوية لقاء استخدام أراضي المدينة .
خلال بناء الأساسات الأولى ، عثر البناؤون على رأس الثور ، فاعتبروه فألاً للخصبة .. ولكن من الصعب أن تنمو مدينة وأن يكون مصيرها العبودية الدائمة . فتوسعوا في بناء مدينتهم حتى عثروا على رأس حصان وهو مافسروه أن شعب المدينة الجديدة سيكون قديراً حربياً وقوياً وله شأنه الكبير . ازدهرت مدينة “قرطاج” في عهد (أليسار) الملكة السورية مع وصول السكان الجدد ، وبدأ توافد التجار من جميع الآفاق القريبة والبعيدة محملين ببضائعهم وثرواتهم . وحسب ما رواه (جوستين) ، طمع (هيرابس) ملك المكسيتن – السكان الأصليين ، بثروات ملكة “المدينة الجديدة” ورغب استغلال تطور المدينة وإيراداتها ، فطلب (أليسار)كزوجة لنفسه. لكن الملكة لم تكن تفكر بالزواج مرة ثانية بعد زوجها ، الذي وعدته أن تبقى وفية لذكراه يوم قتله أخوها ، فرفضت طلب الملك الذي حاصر المدينة بجيوشه وهدد باجتياحها إذا لم تُلَبِّ طلبه صاغرة ، واختارت (اليسار) الانتحار بدلا من أن تسبب الخراب لمدينتها بسبب رفضها ، فأوقدت محرقةً كبيرة وألقت بنفسها في النار .
وتختلف القصص عن نهاية (أليسار) ، لكن جميعها تتفق على انتحار الملكة في النار . وحسب (فيرجيل) في كتابه “الإنياذة” : (أينياس) ، أمير طروادة ، الذي كان يتجه مع اتباعه إلى إيطاليا لإنشاء مدينة جديدة ، شاءت الظروف ، ومع تدخل الآلهة ، أن يحط مراسيه على الساحل بالقرب من “قرطاج” مما أدى إلى اللقاء بين الملكة (أليسار و اينياس) ووقعا في الحب ، وتناسى (اينياس) الهدف من رحلته ليستقر بالقرب من حبيبته . لكن “جوبيتر” ، ملك الآلهة ، إغتاظ من هذا التراجع والتناسي المفتعل فتجسَّد للأمير (اينياس) يذكّره ويطالبه القيام بواجبه والإبحار إلى إيطاليا لتحقيق ما تريده الآلهة . فلبى الأمير طلب “جوبيتر” وأبحر مع أتباعه من دون أن يعلم الملكة. فغضبت الملكة (أليسار) وأمرت خدامها بأن يضرموا النار في جميع ما تركه (اينياس) وراءه وطعنت قلبها بالسيف ورمت بنفسها في المحرقة .
كانت إدارة مدينة قرطاج منذ البدء تحت مسؤولية مدينتها الأم صور وتابعة لها كتعبير من الملكة (اليسار) وفائها لأصولها السورية . لكن الوضع تطور ونمت المدينة تدريجياً حتى رأت أن تحصل على استقلاليتها التامة تحت إدارة هيئة خاصة بها عُرِفَتْ باسم “كبار القضاة” . لكن العلاقات ظلت وثيقة ودائمة مع المدينة الأم ، حتى وصول الإسكندر المقدوني عام 332 ق.م. إلى مياه مدينة “صور” البحرية وحصارها. فقام أهالي “صور” بإجلاء الشيوخ والنساء والأطفال خلال ليالي الحصار على متن سفنها المتجهة إلى “قرطاج” بأمل اللجوء إلى مأوىً بعيدٍ عن الحصار وعن الحرب المفروضة عليهم من قبل المقدونيين .
وازدهرت “قرطاج” أكثر مماكانت عليه لتصبح مدينة كبيرة ومستقلة بسياستها التجارية وبعلاقاتها الدبلوماسية الخاصة ، فتخطت بذلك جميع المدن والمستعمرات والمراكز التجارية الفينيقية في غرب البحر الأبيض المتوسط ، وما لبثت أن تحل محل “صور” كوصية على جميع عمليات التداول الفينيقي في حوض البحر الأبيض المتوسط كله . إن الازدهار والهيمنة القرطاجية أعطت تلك “المستعمرة” الأهمية المميزة في فرض نفوذها وفي السيطر على الغرب المتوسطي كاملاً ، ومنذ ذلك الحين، أُطلِق لقب “البونية” على المنطقة ، وصارت تسمية السكان “بالبونيين” مع الدخول في فصل جديد من تاريخ البحر الأبيض المتوسط . دامت الروابط بين “قرطاج و صور” عدة سنوات لكنها انتهت بعد انتصار روما على قرطاج (الحربين الفينيقيتين) الأولى والثانية وامتداد النفوذ الروماني على جميع محيط البحر المتوسط “.
إن السوريين الفينيقيين ، أوجدوا حضارة ومنطقة خاصة بهم ذات ثقافة مختلفة . حتى أصبحت “قرطاج” إمبراطورية يمتد نفوذها من السواحل الليبية في الشمال الأفريقي وتتجاوز أعمدة “روما” عاصمة أسطورتها (هرقل) ، ولاتتوقف على سواحل المحيط الأطلسي ، البرتغال إلى الشمال والمغرب إلى الجنوب ، وامتدت سلطاتها إلى إسبانيا وعلى أغلب الجزر في المتوسط (صقليا ، سردينيا، كورسيكا ، …). ووصلت جيوشها وعلى رأسهم (هانيبال) ، بعد عبور جبال الألب إلى أبواب “روما” ، وامتدت ملاحتهم حتى وصلوا إلى القارة الأمريكية في شمالها وجنوبها كما تثبت الاكتشافات الأثرية اليوم .