حلم ” محارب ” قصة قصيرة د.علي أحمد جديد
وكالة أنباء آسيا

حلم ” محارب ”
قصة قصيرة
د.علي أحمد جديد
فتــح الأفق أهدابه في الخارج وتشقق الصباح ، فتسللت من بين رموش العتمة شظايا شعاع شمسٍ شتائية متبقية بلونها البرتقالي المائل للاصفرار كليمون البيارات العريقة ، وانزلقت نحو الزنزانة نسمةٌ مفعمة برطوبة الندى تَعبرُ امتداد السرداب الطويل برشاقةٍ و كأنها اغتسلت لتدخل معبداً تُهَوِّمُ في زواياه الصلوات .
سأله واحد من زملاء الزنزانة :
– كيف كنتم تُمضون الليالي هناك و انتم سجناء في (إسرائيل) ؟…
لــم يكد الرجل ينتهي من لفظ كلمته الأخيرة حتى انتفض مزمجراً وهــو يقول بجنون :
– أنها فلسطين أيها الأبله .. مات الآلاف من رجالنا وشبابنا ونسائنا .. وحتى الأطفال منا ضحوا بعبير دمائهم ومازالوا يضحون ليبقى اسمها فلسطين … وسيبقى هذا اسمها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا . سيبقى اسمها فلسطين مهما تَلوَّت الحيّات والأفاعي .. والأعراب لتُغيِّر الجغرافيا التي وضعها الله فيها ، ومهما عملوا على تزييف التاريخ وتزويره ، لأنها مزروعة في نبضات القلوب ، ومحفورة في وجدان التاريخ أغنيةَ افراحنا ولهيب مقاومتنا ..
قاطعة الرجل و الذهول ينهب ملامحه :
– و ما الفرق في التسمية يا أخي
ما دمنا نرزح تحت سطوة اليهود
وتسلّط جماعة أكثر يهوديةٍ من اليهود أنفسهم ؟! ..
– الفرق كبير جداً يا صديقي ، ومجرد التلفظ بالتسمية يعني الاعتراف بوجود شرعية هكذا كيان نرفض وجوده على أرضنا المباركة ..
تدخّل آخر محاولاً تهدئته وهو يقول :
– أرى أنك تتهّرب من الإجابة على سؤاله . هيا أخبرنا كيف كنتم تقضون أيامكم في سجون
الاحتلال ؟ ..
هدأ قليلاً وهو يعتدل في جلسته على أرض الزنزانة . تأمل وجوههم وهم يلتفون حوله منتظرين أن يزفَّ لهم صور ما مرَّ عليه في سجن الاحتلال ، وأن يفتح أمامهم أبواب قلبه ليطلق طيور معاناته من ظلال أقفاصها . اغتصب ابتسامة باهتة يفردها على وجهه وكأن صوتاً في داخله يناديه فتعود من أفق التناسي حمائم عذاباته وتجدّد ما قد مضى دون أن تغيب .
شاركوه الابتسام فانطلق يروي لهم :
– لم تكن أيام الأسر كغيرها من الأيام ، ولا الليالي تشبه الليالي .. كل لحظة كانت تمرُّ أكثر ألماً من سابقتها و أشد قسوة . كانت الليالي والأيام تمطر عذاباً ووحشةً وألماً يزهر حنيناً وسكينة ، ولكني حين أذكرها يملؤني الإيمان بأنني كنت أسدّد شيئاً مما أدين به لهذه الأرض التي احتضنتني ببركتها الإلهية منذ لحظة ولادتي ، كما تحتضن اليوم جثمان أمي وأجدادي منذ ألوف السنين ..
اقترب منه الأول حتى كاد يلتصق به ، وبات يسمع وجيب قلبه ينفرد بصوته وحيداً فيمتاهات سكون زنزانتهم . سأله بتودّد صديق وبإشفاق أم رؤوم :
– وهل كانوا يمعنون في تعذيبكم بالقسوة التي نسمع عنها ؟ .. لقد سمعنا الكثير عن ابتكاراتهم
لوسائل وأساليب تعجز الشياطين عن ابتكارها ..
رفــع رأسه يتأمل الرطوبة المطبوعة بخرائطها المتشابكة على سقف الزنزانة بينما ترتدي جدرانها الباهتة كآبةً خرساء ومهيمنة على تفاصيل رحلة الأسر ومرارتها . تابع بصوته الشجي يسردُ أحداثَ ما رسخ من جنون تلك الليالي :
– كنا هناك نجترحُ الصبرَ الأسطوري لنتمكن من الصمود في مواجهة آلامٍ تمتد إلى كل جزءٍ من الجسم وكل مسامٍ ونحن مقيّدون إلى منصة التعذيب . جرَّبوا معنا كل شي لنخبرهم عن مواقع المقاومة ، فكان الواحد منا يغمض عينيه هروباً من ألمه ويمتطي حلماً
يُشعلُ جذوة الصبر في ذاته وينتصر على أحقادهم وعلى وحشيتهم . كنا ننتصر على قسوتهم بالحلم وبالصبر ، لأن النصر لا يكون إلا بالصبر الذي لاينتهي مهما راهنوا على إنهائه
ونهايته .
ران على الزنزانة صمتٌ ثقيلٌ ومجنونٌ .. وطويلٌ يرسم ظلال نواح مكبوت . فرَّت من عينيه
دمعتان شعر بدفئهما على وجنتيه ، بينما هطلت أمام العيون عتمة مفاجئة كدموع بكاء الليل في
غيبة القمر تعلن انقطاع التيار الكهربائي واختفاء ما تبقى من نورٍ يُظهِرُ ظلال الأشياء . تحسَّسَ قدميه المتورمتين بأصابعه وراح يدلكهما برقةٍ وبرفق ، ويتابع تبديد خفافيش الصمت المُطبِق وهــو يقــول :
– لــم نكــن نملك في الأسر سوى الحلم المُغلَّف بالصبر .. لم يكن هناك ما يُشدُّ عزمنا ويواسينا سوى الحلم . وها نحن اليوم لا نملك سواه .. حتى بتُّ أرى الآن أن كل شيء بدأ ينفد كما نفدت ذخيرتنا يوم وقوعنا في الأسر ، ولم يبقَ لنا سوى الحلم في المقاومة لأنها وحدها طريق التحرير والخلاص ، وإذا فقدنا المقدرة على هذا الحلم فإننا سنقع في براثن العجز كما وقعنا في شِباك الأسر ، وبالتالي سنفقد المقدرة على الثبات والصمود في مواصلة المقاومة .. و الحياة .
قــال الثاني إلــى يمينه :
– لقد فرَّ الحب من قاموسنا وضاع الضمير ، كما فقدنا ملامح المصير و الكبرياء حين التفتنا للنظر من ثقوب نِعالنا ونسينا أبواب السماء .. ألا يخطر لك يا ( محارب ) أنك لو بقيت أسيراً عنداليهود ما كانت ستوصلك مقاومتك إلى زنزانةٍ قذرة ورطبة كهذه الزنزانة وعليها َسَجّانٌ من أبناء جلدتك . هناكَ على الأقل لدى اليهود لِجانٌ ترعى حقوق الإنسان في السجون ، ولا يسجنون أحداً دون محاكمة تتيح له الدفاع عن نفسه . وكما ترى هنا يا صديقي ، فإن الداخل إلى سجون السلطة الميمونة مفقود و الخارج منها مولود ، إذا خرج !! ..
غَبَّ نفَساً عميقاً من رطوبة الزنزانة ، فاعتراه سعال خفيف وتاهت نظراته بين وجوههم
وهــو يستمع إلى زميله . ما لبث أن قال للجميع :
– دعونا لا نخلط الأمور كي نتبين الواقع على حقيقته . أرى أنه يقول الآن ويردّد ما يتمنى العدو أن نقوله ونردّده جميعنا حتى يتغلل في وجداننا ونصدّقه كحقيقةٍ واقعة .. كلنا شركاء في المقاومة اليوم لأننا الشهود المؤتمنين عليها .. ولأن المقاومة ليست خيالاً ولا تهاويم حكايات أسطورية ..
ياصديقي ، إن المقاومة حقٌّ وكبرياءٌ ، وكرامةٌ .. وحب . والمحب الحق هو من يهوى بكل جوارحه ، ويعطي دون سؤال . وما تقوله الآن إنما يُخفي بشاعة العدو ويغطّي على جرائمه . نحن شعب مازال التاريخ يخلِّدُ نضالنا ومقاومتنا ، فقد مرَّ علينا الأنبياء في هذه الأرض ، و كانت قداستهم وليدة ثباتهم ومقاومتهم ، وجاءتنا من بعدهم الملوك الطغاة والاحتلال يعبثون في وجداننا و إيماننا لقهرنا وتركيعنا . لقد ذكرتَ المحاكمات المتاحة للسجين في محاكم الاحتلال ، وهي محاكمٌ تَجمع القاضي و القاتل و الجلّاد في شخصٍ واحد .. كما أغفلت بِدعتهم في (التوقيف الإداري) كي لايكون للسجين حقٌّ في الاعتراض أو الاستئناف أو أي شكل من مسميات القوانين ..
والأخطر ، أنك تقارن بين العدو الغاصب و المحتل وبين أهلك ، فتساوي بين الجزّار و بين الذبيحة ، لأن الأهل هم أهلنا مهما كانت أخطاؤهم التي يمكن أن نتعاون على إصلاحها وتجاوزها .
قلَّب نظراته يتأملهم بصمتٍ مَدَّ أذرعه وأطبق عليهم مرة واحدة . تابع يقول :
– قد تكون المقاومة عند الكثيرين خالية مما ترجونه من السعادة ، لكنها أبداً لا تخلو من الأمل . لأن
المقاومة باتت هي الأمل الوحيد لخلاصنا . وما نحن فيه اليوم ليس أكثر من سحابةٍ رمادية دكناء و
لا أكبر منها ، ربما تحجب شيئاً من نور الأمل ومن ضوئه , ولكن تبقى المقاومة أنشودة حياتنا التي مازلنا نردّدها منذ طفولتنا ، وهاهم أطفالنا وشبابنا يستعيدون صداها اليوم وهم يرجمون المحتل بحجارة هذه الأرض التي ترفض وجود كيانهم فوق ترابها ، وتوقد حجارتها فينا منارةَ الأمل لنضمد
منها ثخن الجرح .. ومهما كانت عتمة الليل ، فإنه ما من ليلٍ إلا ويبدّده النهار . ستنجلي هذه السحابة ليبدو ماوراءها على حقيقته .. وحتى هذه السجون الطارئة ستزول بعد التحرير ، وهذه حتمية النضال و واقعيته …
ِاحتدَّ الأول و التمعت عيناه و هو يرددّ بحنقِ واحدٍ مشدودٍ إلى زاوية النار :
– عن أي حتمية تتحدث يا (محارب) وعن أية واقعيةٍ ومقاومة تحاضر !!..
تدخّل ثالث يتكوّر بجسده الهزيل في الركن المقابل :
– يا أخي ، أنت لم تَرَ اليهود وهم يواجهون الانتفاضة و الحجارة بالعصيّ .. لقد رأى العالم عجزهم على شاشات التلفزة ، بينما جيوش الأنظمة العربية لاتسجل انتصاراتها إلا على شعوبها ، وهاهي شاشاتهم الملوّنة تنقل كيف يحصدون بالرصاص كل من يطالب بالرغيف ، وكيف يخفون المحتجين وراء الشمس ليتعرّفوا هناك على حقيقة ما يطالبون به ..
تابع الأول يدعم قول زميله المتكوّر في الركن المقابل :
– أسَمِعتَ يا(محارب) ، اليهود الصهاينة هنا يواجهون الحجارة بالعصيّ ، وجيوش أنظمة
( بلاد العرب أوطاني ) ..
قاطعه ( محارب ) وهو يقول :
– هذا ما كنت أخشاه منكم وهذا ما كنتُ أشيرُ إليه . لقد سألتكم أن لا تقارنوا بين الأهل – مهما فعلوا – وبين العدو الغاصب و المحتل حتى لا ننشغل بأخطائنا وننصرف عن المقاومة في فكرها وفي جدواها . كلّ المتربّصين بنا في الداخل وفي الخارج يدفعوننا إلى هذه المقارنة ليغسلوا أدمغتنا وليمنعوا انفجارنا في وجه الغاصب المحتل ، وبذلك سيؤخرون انفجار الأرض بالغضب ، إنهم ينفقون جبالاً من الأموال حتى يتمكنوا من
الاستيلاء على وجداننا ليمحوا ذاكرتنا أو يشّوهوها كي نفقد الوجهة الصحيحة في بوصلة
مقاومتنا .. وإذا أتحنا لهم فرصة تحقيق ما يريدون فلن نستطيع الصمود الذي يؤرقهم ويزلزل
عروشهم .
سكت قليلاً في بوحه وهو يتلمَّس تَوقَهم ويتفرَّسُ تردّدَهم الذي بات – كما أحس – دون جذور
تشدُّهم إلى الثبات على ما يحملون في رؤوسهم وما توارثوه جيلاً عن جيل زرعته فيهم سلاطين الكذب والتزوير عبر تاريخٍ طويل . قال وهو يراقب دخان التبغ تغزله أفواههم ويستعرض الأسى يتوقّدُ في عيونهم :
– إن المقاومة يا أخوتي لا تكون بالبندقية وحدها .. إنها تبدأ بالفكر أولاً وبالقناعة .. ويلزمها الإيمان بقدرات النفس والإيمان بالآخرين .. وكذلك الإيمان الراسخ بالوحدة قبل البندقية .
إن الشاشات التي تتحدثون عنها إنما تتعمَّدُ عرض اليهودي الذي يواجه الحجارة بالعصا ، لكنها لا تعرض صورته وهو يقوم بتكسير عظام الأطفال بتلك العصا ، لأن أكثر ما أخافهم هو تسمية الشعوب لأطفالنا باسم (أطفال الحجارة) الشعوب وليست الأنظمة ، وهم يعرفون أن ذلك يعني بأن المقاومة لن تتوقف أبداً وستنتقل الراية من يدٍ إلى يد ومن جيلٍ إلى جيل حتى دحرهم .
* * *
كل شيء بدا رائعاً في المقهى المقدسية العريقة ، و الجالسون حول العجوز يرخون رؤوسهم وهم يستمعون إليه بتلهفٍ رشيق كالنسمة المتسللة من الباب الموارب . استند العجوز بأسفل ذقنه إلى عصاه وهو يحكي لهم عن ابنه (محارب) بفخرٍ واعتزاز :
– لــقد كان صمود ولدي (محارب) مع رفاقه المقاومين أسطورياً لم تتحدث عن مثله كتب التاريخ ولم تصل إلى وصفه مخيلة كاتب روايات وملاحم . صمدوا في (جنين) يقاومون الاجتياح الصهيوني .. وقاتلوا بإيمانٍ كربلائي عظيم حتى نفدت ذخيرتهم ، ولم تصلهم الإمدادات في وقتها ولا بعد وقتها ، وهم يرون رفاقهم الجرحى حولهم تنقلب آمالهم إلى أسىً و ألم .. ارتجفت من حولهم أغصان الشجر تُجفِلُ العنادل و الطيور وتوقِفُ الغناء ، فأطلقوا صيحاتهم كباحثٍ في العتمة عن ضوءٍ من نهار ، واشتبكوا مع اليهود بالأيدي
وبالسكاكين حتى وقعوا في الأسر ، لأنه وكما يقال ( الكثرة تغلب الشجاعة ) .
وبعد أعوام طويلة من الأسر و العذاب و التعذيب ، استطاع ولدي (محارب) أن يهرب من سجون الاحتلال عبر نفقٍ حفره مع أخوته من الأسرى المقاومين . إن (محارب) لم يستشهد في المعركة كما أشاعوا وثبّتوه في سجلاتهم التي لا يسجلون فيها إلا ما يمليه عليهم الاحتلال ، ولم يَقضِ في سجون الاحتلال كما يتمنون ويأملون .. لم يكن ولدي ورفاقه الخمسة كما يتقوّلون عنهم اليوم لينالوا من حلمهم بالتحرير الكامل ومن كبريائهم المقاوم ..
اصطبغت الوجوه حوله بشعاع شمس نقي الألوان ، وراح رذاذ المطر يتهادى بلمعانه الماسي
ويعانق الغبار بينما مواكب العابرين أمام واجهة المقهى تحث خطى الأقدام وكأنهم يفرّون من لحظات انتظار كانوا يقضونها بين انطفاء واشتعال على امتداد فراش خضرة ربيعٍ متجدد حتى يلتقي في الأفق البعيد مع الأشجار الشامخة بثبات جذورها في الأرض . تململ العجوز في جلسته وسحب نفساً قصيراً من نرجيلته المقدسية التي يتحدث خشبها عن تاريخٍ ممتزج بعَبَق التبغ ( العجمي ) الأصيل . سحب نفساً آخر أتبعه بسعال خفيف وهو ينفث الدخان نحو الأعلى ويتأمل دوائر الدخان
تتابع تحليقها وتتسع حتى تتبعثر وتختفي وراء أحجار القبة المقوَّسة . تابع يقول :
– لم يبقَ في موقع معركة (جنين) يومها سوى أربعة من المقاومين كان ولدي (محارب) واحداً منهم بعد أن استشهد رفاقهم وخاضوا معركة بكل ما تعرفونه عن كربلاء من تفاوت العدّة والعدد .
كانوا ولدي (محارب) وثلاثة من أخوته المقاومين الأشاوس ، وساقوهم إلى سجن في (النقب) كما كان موكب السبايا يوم (كربلاء) لا شمس في نهاره ولانجوم في ليله و لا نور .
* * *
خفق نور المصباح في سقف الزنزانة ينزف ما تبقى فيه من نور .. توهج لفترة قصيرة جداً ، ما
لبث أن خبا بالتدريج حتى انطفأت أنفاسه مرةً واحدة مُفسِحَةً المجال لعتمة لا تعرفها سوى الزنازين
رغم انفجار نور النهار في الخارج . صمت الجميع ولم يعد يسمع غير أصداء أنفاسهم المتلاحقة .. ما لبث أن عاد النور بنبضاتٍ خافتة وضعيفة تكاد لا تقوى على إظهار الأشياء بوضوحٍ خالٍ من
الظلال . سمع لغط السجانين وقهقهاتهم المتشبثة بألفاظ بذيئة و هي تَعبُرُ السرداب الضيّق الممتد
بينهم وبين الزنزانة . دامت الضحكات و الشتائم تترى لفترة غير قصيرة ، ومرة واحدة هدأ كل
شيء بعد ارتطام الباب الحديدي في آخر الممر وإغلاقه بقوة تطغى على عنف السَجّان وقسوته التي
لا تعرف لها مدىً ولا حدوداً .
تنقل بنظراته بين المسجونين المتكدسين حوله وكأنها نظرات مسلوبة الأحلام وباتت بلا أهدابٍ
تزهر في قلب بنفسجة تحاصرها القضبان . تأملهم يفترشون الأرض غير عابئين بعريهم ولا بالروائح الثقيلة التي تمطرها ضبابيات الرطوبة ونتانة الجدران لتتخالط بروائح تعرّق الأجساد .
كل مراكز التوقيف التي احتجزته السلطة في زنازينها ، وكل محاضر التحقيق التي طبع عليها بصمته والتي حملت تواقيعه كانت تتشابه إلى حدِّ التطابق وهي تتهمه بانتحال اسم (محارب) وصِفَتِه المقاوِمة . ومن أجل أن يعترف بالتهمة الموجهة إليه لم يتركوا أسلوباً من أساليب التحقيق الحديث منها ولا القديم إلا وأخضعوه له .. كما استخدموا كل الوسائل المعروفة وغير المعروفة وجربوها في جسده . لكنه كان يزداد صموداً وتمسكاً بحقيقته وبانتمائه ، وبدا لهم أقوى مما توقعوا وأصلب من أن يناله الضعف في لحظة أو الانهيار .
لم يكن يصّدق نفسه وهو يسمع رئيس مركز التوقيف يصبُّ الكلمات في أذنه كفولاذٍ مصهور ، ويهمس له بعطفٍ وأسىً مؤكِّداً تصديقه وثقته بحقيقة ما يقول عن صدق إيمانه بالمقاومة ، ولكن التعليمات جاءت صارمة لإرغامه على الاعتراف بتعاونه مع مخابرات الاحتلال . وعبثية كانت محاولاته للشرح بأنه ليس إلا شخصاً عادياً وفلسطينياً يؤمن بتاريخه وبعدالة قضيته ، وأنه لم يحمل السلاح إلا دفاعاً عن الأرض التي سيحتضنه ترابها يوماً بكرامة تُمزِّق ظلمة الهزائم التي أورثتها الملوك و الطغاة للأجيال منذ يوم (صِفّين) إلى (القدس) .. وبأنه لم يكن يوماً سوى مقاوم باع دمه لألَق الأرض و التاريخ .. ولم يطمح يوماً في تولي منصب أو حَملِ حقيبةٍ ملؤها الكذب و الخنوع و النفاق ، وبأنه لايكرهُ أكثر من التعامل مع المحتلِ سِرّاً أو علناً لأن الغاصب لا يفهم إلا لغة البندقية ، ومن المستحيل أن يمتهن المقاوِمُ العمالةَ أو الخيانةَ
مصادفةً أو عن سابقِ تصميم .
جَلسَتْ أمام شبّاك الغرفة المفتوح تطِلُّ على باحة الدار المغمورة بحضن المغرب الشفقي ،تحكي لأولادها عن أبيهم المقاوِم حتى لا تتدحرجَ عقاربُ الأيام ويَطِنَّ المنبّهُ مُنهياً الوقت قبل وعيهم الوصية ويفهموها . قالت وضباب الشجيرات يستثير شذى عناقات حبات المطر مع تراب الأرض :
– لم يكن أبوكم وحده يوماً ولم يقع في براثن الأسر وحده .. وليس السجن دائماً سوراً و لا قضباناً
.. كلنا هنا أسرى الاحتلال ، كما لم يكونوا أخوته الشهداء وحدهم ، وليس الشهيد الذي تحتضنه أرض (جنين) أو أي أرضٍ تحت ترابها ، فكل شعبنا شهيد الليل و الظلم و التيه وخذلان الذين يقولون بأنهم أهلٌ من لحمٍ و دم . وإذا كانت الأرض مزرعةً لجثامين الأبطال و الشهداء ، فإن بطون النساء مَعينٌ لا ينضب من الرجال . صحيح أن أباكم وأخوته المقاومين في سجنٍ بأقصى (النقب) ، لأنهم هناك علموا بأن التصالح مع العدو لم يتوقف يوما عند (كامب ديفيد) ، وأن الموائد انتصبت في (أوسلو) كما في( وادي عربة ) وباتت تأخذ أشكالاً متعددة مثل (حوار الأديان ومؤتمرات دافوس) وغيرها من اللهاثات السريّة و العلنية التي تعطي اليهود مالم يحلموا بالحصول عليه يوماً رغم كل مايمارسونه من القتل والوحشية .. وبلا ثمن .
لكن أباكم وأخوته المقاومين قرروا أن يغسلوا آثام تزييف الرجولة بدمائهم وأن يعيدوا للمقاومة ألقها الجميل . يريد أبوكم أن تكونوا سيفاً صارماً وأن تنفضوا عن قلوبكم دهشتها الأولى وخشيتها من تهويل العدو بعديده وعتاده . وانا أعرف الآن شوق أبيكم لشوارع (القدس) لأننا عرفنا الحبّ في أزقتها العريقة ، وحفرنا اسمينا على الكثير من جذوع أشجارها ، فقد تزوجنا هنا في دار جدّكم التي يقولون عنها (جوهرة حي الشيخ جرّاح) لأنها ماتزال أقدم دور الحي
التي توارثناها جيلاً بعد جيل وتمتد جذورنا في أرضها لآلاف الدهور و السنين . ولما وصل أبوكم (محارب) ورفيقه الوحيد من بقية الهاربين من النفق إلى أول مركز صادفاه من مراكز (الأمن الوقائي) يحتميان به ، تمَّ توقيفهما في ذلك المركز لأكثر من عشرة أيام بانتظار ردِّ السلطة على تأكيد هويتهما ، لكن الردَّ جاء يشير إلى أنهما ينتحلان اسميّ شخصين ثبتت سجلات السلطة موتهما .. قالوا عنهما (ميّتين) ولم يقولوا (شهيدين) ..
وهناك في مراكز (الأمن الوقائي) امتطيا صهوة عذابات التحقيق من جديد . وفي يومٍ جاء تقرير
الطبيب الشرعي يقول بأن رفيق (محارب) قد توفي نتيجة هبوط حاد ومفاجئ في دورته الدموية !!…
أدخلته السلطة سجناً تلو الآخر ، ونقلوه من مركز تحقيق إلى غيره حتى أتى على كافة السجون ، وزار كل مراكز التحقيق في الضفة . وفي كل زنزانةٍ أقفلوا عليه بابها الحديدي المُقضَّب كان يقرأ على جدرانها الخرائط المتشابكة من ذكريات الموقوفين المنقوشة على الجدران بالفحم حيناً و بالطبشور أحياناً ، وكان أكثر ما أدهشته هو كثرة السجون وتعدد مراكز التوقيف على مساحة صغيرة من الوطن ارتضت السلطة بسط سيطرة الشرطي المنقوصة عليها ، كما أذهله عدد الموقوفين الذين في المراكز و السجون ، واكتشف أن تلك المراكز لم تحتوِ راء قضبانها يوماً قاتلاً ولا لصاً ولا داعراً أبداً .
* * *
خطر له أن الصباح ، خارج السجن ، يختلف اليوم عن غيره من الصباحات المقدسية و تخيّله بارداً بعض الشيء ، وجميلاً ماطراً .. منذ طفولته وهو يعشق الصباح الماطر تحت سماء (القدس) العتيقة حين تزدحم بغيوم لا تعرف إلا العطاء ، لتطلَّ الشمسُ من ورائها دافئةً تُحيي الحلم والأمنيات . استعاد صِباه وهو يهيم تحت المطر باسماً ويتنشق عبق أسواق (القدس) ويزهو بشموخ مآذنها وهي تعانق نواقيس الكنائس ، لتتوحد فيها التكبيرات وتراتيل القُدَّاسات التي تدعو للتحرير و للمقاومة . وحين تحركت شفتاه وهو يهمُّ بالحديث تحلّق الجميع حوله كفراشاتٍ تسعى نحو نافذةِ نورٍ لا ينتهي . قال :
– أعرف بأنهم لن يتركوا لي فرصة العودة إلى (القدس) ثانية ..
قال الأول بإشفاق :
– هَّون عليك ياأخي ، فقد عرفناك متفائلاً دوماً ، وثابتاً .. ومؤمناً !!.
ردَّ مبتسماً وهو يُربِّت على كتف زميله بودٍّ دافئ :
– أنا لا أتكلم عن الموت يا صديقي ، فلقد عانقناه – رفاقي وأنا – كثيراً ومراراً ولم َنمـُتْ .. لكن ما يُدمي قلبي أنهم سيسلمونني لليهود قبل أن أملأَ صدري من عبق (القدس) وقبل أن أخبرأولادي بأني لم أكن مقاوماً إلا ليعيشوا على أرضهم أحراراً وبكرامة . وبأننا لم نكن نقاتل لأن الحب فَــرَّ من قلوبنا كما يصوّروننا ، ولا لأن الأصدقاء غدروا بنا ، كما خانتنا الحصون . نحن لا نقاتل كي نساوِمَ أو نعترفَ بعدوّ . أريد أن يعرف أولادي أنني لم أخُنْ دماء أخوتي ، ولايمكنني أن أخون .. أريد من أولادي أن يصمدوا دون أن يضعفوا لأن الرحلة باتت أكثر شِدَّة ومَشقّة بعدما سقطت الأقنعة وصار الهمس صراخاً يدعوا للتصالح .. أريدهم أن لايثقوا إلا ببندقيتهم ، وأن لايرضخوا لتهديد ولا يستسلموا لوعود .. حتى وإن لم يبقَ غيرهم خارج أسراب المتهافتين انبطاحاً على التصالح .. أريدهم أن ينفخوا أبواق مقاومتهم في الآفاق كي يبقى في بَريقِ الدم لونُ الرجولة وشعاعٌ من المقاومة
تابعت الغيوم مسيرها نحو الشرق تحتفي بالشمس وهي تقطع مدى السماء البعيدة وتتجاوز الأشجار المنتصبة كظلال اللهيب في الأفق . أنزل العجوز عكازه المقدسية عن حجره وعاود نَفثَ دخان نرجيلته ويقول بصوت جهوري يسمعه الجميع :
– لكثرة ما نَقَّلوا ولدي ( محارب) من إلى سجن ، ولكثرة ما شَرَّقوا به وغَرَّبوا صار جسده أزرقَ مثل ياقوتةٍ صقلتها ضرباتُهم دون أن تستطيعَ كَسرَها .. لقد فاتَهُم أن النار لا تعطي لونها الأزرق إلا بعد أن يشتدَّ احمرارُها . لقد صمد ولدي (محارب) في الأسر البعيد كما يصمد في الأسر القريب اليوم ، وقاتل بشرفٍ وبطولةٍ متمسكاً بحلمه في العدالة و الكرامة ، وهو يعلم يقيناً أن هذا الحلم لن يتحقق إلا بعد إزاحةِ العتمة المُعشِّشة في الكراسي و العروش ، حتى يضيء نور التحرر و الحياة . إنهم يفرشون لأبنائنا الورود في دروب الهجرة و الاغتراب ، بعد أن يضيِّقوا علينا باللقمة حتى لا يبقى هنا مَن يقاتل ولا من يدعو إلى مقاومة .. إنهم يدفعون بنا جميعاً إلى الصمت العاجز وإلى نشوة الذهول بمنجزاتِ لصوص سرقوا منا كل شيء ، ولم يوَفِّروا حتى لحظة الحلم .
لم يكن ولدي (محارب) بطل رواية أسطورية يقتل العشرات بضربة سيف ، و لا فارساً في بلاطٍ ملكي تهفو الحِسان العاشقات للقياه كما في روايات بلاطات الملوك .. وما كان ولدي (محارب) يغرف النقود من جبٍّ مليء بالأموال مثل ملوك النفط وأمراء جماعات لصوص اللقمة والأمن والجواهر .. لأن هؤلاء لا يقاتلون غاصباً يحمي عروشهم و لا يدعون إلى مقاومة . إنهم يدفعون البسطاء إلى الميادين والساحات ليقاتلوا ، وفي احتدام المعارك يعقدون الصفقات ويقيمون حفلات قرع الكؤوس وتبادل أنخاب هزيمة المقاومة والمقاومين ، حيث يبيعون أنفسهم كما يبيعون المدن و الدماء والأبرياء .
إن ولدي (محارب) واحدٌ منكم تتخطفه العسس وتجار الدماء لأنه مقاومٌ يرفض أن يكون واحداً من جند الحاشية و ويرفض حتى أن يكون سلطاناً . إنه بسيط مثل خبزكم وزيتوكم ، وأنتم حلمه النقي و الجميل .. إنه جدولٌ صافٍ ودائم العطاء ، وهو يعطي بقَدرِ حلمه بكم ، ويحلم بقَدرِ ثباتكم في هذه الأرض ، وبقَدرِ إيمانه بكم وانتمائه لكم . إن ولدي (محارب) لم يمت ، ولن يموت لأنه يعيش فيكم .. ولكم .
كان القادة يناقشون خطط التصدي لاجتياح المخيّم ويعرضون تفاصيل دعم المقاومين الرابضين في موقع (جنين) لإمدادهم بالعتاد حتى يتمكنوا من الصمود و الدفاع . وقف (محارب) يقول للمجتمعين :
– سنقابلهم موتاً لموت .. نحن ، ومن ورائنا الحلم و الأطفال .. والغدُ و البيوت ..
وهم تدفعهم الوحشية و الأحقاد ، وسيرى الجميع أي المَوْتَين ينتصر . وإذا لم تُكتَب لنا العودة ، وأكرمنا الله بالشهادة ، فلابد أن تكملوا المشوار حتى التحرير ، و ثِقوا بتحقيق النصر لأنه وَعدُ الله للصادقين …
فــي تلك اللحظة ابتسم القادةُ المجتمعون وتبادلوا النظرات فيما بينهم ، وعلى صفحات عيونهم كانت ، لحظتها ، تختلفُ النظرات بالدلالة و بالمقصد .. كانوا يلتزمون الصمت جميعاً .. سكتوا لحظتها ولم ينبس واحدٌ منهم ببنتِ شَفَة .