(بول فاليري) شاعر وفيلسوف فرنسي ، وبالإضافة إلى شعره وخياله ، كان يكتب (الدراما والحوارات) ، كما شملت اهتماماته الأمثال في الفن والتاريخ والرسائل والموسيقى والأحداث الجارية . وتمّ ترشيحه لنيل (جائزة نوبل) في الأدب 12 مرة في سنوات مختلفة دون أن يحصل عليها . وهو واحدٌ من أبرز الشخصيّات الأدبيّة والفكريّة الفرنسيّة في الفترة التي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين . كان يكتب الشعر والمقالات الفكرية ، وقد عكس في أدبه وفي فلسفته مدى اهتمامه الكبير بالفن وبالتاريخ والموسيقى ، وقد رُشِّح اسمه لنيل جائزة نوبل عدّة مرات دون الحصول عليها ، وشغل خلال حياته العديد من المناصب في الأوساط العلمية والفكرية داخل فرنسا وخارجها ، والتي كان من أبرزها اختياره كعضو في لجنة التحكيم لنيل جائزة (بلومنتال) التي كانت تمنح للمبدعين الفرنسيين ، وكذلك رئاسة أكاديمية اللغة الفرنسية ، وأرسل كممثل لفرسنا في (عصبة الأمم) للشؤون الثقافية ، حيث شارك في العديد من لجانها الفرعية في مجالات الفن والأدب .
قام بتأسيس كلية (كان) الدولية عام 1931م ، وانتخب كمدير تنفيذي في إحدى المؤسسات التعليمية ، والتي أصبحت فيما بعد (جامعة نيس) ، واختير كعضو في أكاديمية العلوم في (ليشبونة – البرتغال) ، وأثناء الحرب العالمية الثانية جرده نظام الجنرال (فيشي) من بعض هذه المناصب التي يشغلها بسبب رفضه التعاون مع نظام الجنرال (فيشي) المدعوم من المحتل الألماني .
أثناء دراسته الجامعية كتب (بول فاليري) عدداً من القصائد التي نشر بعضها في مجلات المدرسة الرمزية ، لكنه توقف عن كتابة الشعر بعد ذلك بسبب الإحباط العاطفي إثر فشله في علاقة حب ، وهو الأمر الذي دفعه للاهتمام بقضايا العلم والفكر ، وبطبيعة اللغة قبل أن ينخرط في خضم العمل كموظف مدني في مكتب الحرب الفرنسي (وزارة الدفاع) . وفي عام 1900م تزوج من (جانين جوبيلارد) صديقة عائلة الأديب الفرنسي (مالارمي) ، وأنجب منها ثلاثة أبناء ، ليعمل سكرتيراً خاصاً لدى (إدوارد لوبي) مدير جمعية الصحافة الفرنسية وانحصرت متابعاته بقراءة الأحداث المنشورة في الصحف والمجلات والبورصات داخل وخارج فرنسا .
بعد عام 1922 بدأ (بول فاليري) حياة مهنية واسعة تولى فيها العديد من المناصب ، وسافر خلالها إلى عدد من البلدان ، وألقى الكثير من المحاضرات الأدبية والفكرية من أهمها كلمته التي ألقاها في ألمانيا سنة 1932م أثناء الاحتفال بمرور مئة عام على وفاة الأديب الألماني العظيم (يوهان غوته) ، كما ألّف العديد من القصائد قبل أن تقوم بتسريحه حكومة الجنرال (فيشي) من بعض المناصب أثناء الحرب العالمية الثانية ، إلى أن توفي قبل نهاية الحرب بعدة أشهر ، حيث دفن في مقبرة مدينته الأصلية (سيت) .
كان (بول فاليري) ، في نتاجه الأدبي والنقدي ، من أهم أعلام المدرسة الرمزية ، وقد أثّر أسلوبه الأدبي الممزوج بالفكر والفلسفة بعدد من أعلام الأدب والنقد الإنكليزي أمثال (ت. س. إليوت) و(جون أشبيري) وغيرهما .. وكان لإنجازاته النقدية التي احتوتها مقالاته ومحاضراته الكثيرة حول الأدب والرسم والموسيقى دور كبير في تمهيد الطريق أمام انتشار أفكار نقّاد (المدرسة البنيوية) في ستينات وسبعينات القرن العشرين المنصرم .
كان تأثّر (بول فاليري) بالشاعر الفرنسي الرمزي الكبير (ستيفان مالارميه) ملحوظاً وواضحاً في أعماله ، وهو الذي شجعه في بداياته ، وساعده على نشر عدد من أعماله قبل الإنتكاسة العاطفية التي أصابته في شبابه والتي أدرك بعدها أن الشعر بالنسبة له لم يكن سوى إنتاج ثانوي ومحفّز كبير في توجهه للفكر وللفلسفة ، وهذا ماكان (بول فاليري) قد كتبه في دفتر ملاحظاته مشيراً إلى أن الأدب لا يمكن أن يكون خالصاً طالما أنّ الأديب يفكر في مراعاة رأي القراء حول أدبه .
نشر (بول فاليري) العديد من أعماله بين ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر ، كان من أبرزها “مقدمة في طريقة ليوناردو دافنشي” ، لينقطع مدّة طويلة عن الكتابة ويكتفي بالتفرغ لتسجيل أفكاره في دفاتر ملاحظاته ، إلى أن التقى بالأديب (أندريه جيد) الذي تمكن من إقناعه بمراجعة بعض من كتاباته المهملة والتي واستغرقت في مراجعتها عدة سنوات قبل أن ينشر عام 1917م كتاب “يونغ باركيه أو مواقف الشاب” الذي كان السبب في نيله شهرة واسعة ، ليقوم بعدها بنشر ألبوم “الديدان القديمة و المقبرة البحرية” عام 1920م والذي تضمن عميق تأملات (بول فاليري) حول “الموت” ليتوّج تلك المرحلة بديوانه “قصائد ساحرة” الذي كان آخر أعماله في كتابة الشعر .
حيث كتب في قصيدته “المزمور” :
البدءِ كانت المفاجأة
ثم تلاها النقيض
وبعده ظهرَ التذبذب
ومعه التوزيع
وتلاه الصفاء
وكان هو النهاية .
والتي يظهرُ فيها فلسفته الخاصة التي يرى من خلالها أنّ الميلاد إنما يشكّل مفاجأةً أو صدمةً ، يعيشُ الإنسان بعدها عمراً من التذبذب بين المتناقضات ، تجاذبته فيها تفاصيل الحياة وتتوزّعه حتى يلوذ بالصفاء .. وينتهي .
كما يقول جملته الشهيرة (فاليري) تحت عنوان “إفاقة” :
“لا يدري المرء أين يفرّ” .
ولايضم إنتاج (بول فاليري) أكثر من 100 قصيدة شعرية ، وعدداً كبيراً من المقالات النقدية والفلسفية ، التي تُعدُّ خير معبّر عن فلسفته حول الوجود ، وتعكس توتره الداخلي حول القضايا الإنسانية التي شغلته في حياته كالصراع بين الرغبة في التأمل وبين الإرادة في العمل ، حيث كان في الكثير من رسائله يشكو النزاع المستمر بين إملاءات الحياة العامة وما فيها من تجاذبات ، وبين رغبته الدائمة في العزلة والانقطاع للتفرغ إلى التفكير والتأمل ، حيث كانت الغاية من بروز الشرط الإنساني في كتابات (بول فاليري) ليس التسليم به كقدر محتوم ، بل كان شرطاً ينبغي الثورة عليه ، وذلك بتأكيده عدم ذوبان الإنسان في الجماعية المقيتة التي تتآكله وتعدم هويته . وكان يَعتبرُ (التاريخ) في ظل الشرط الإنساني هو المحرك الأكبر الذي ينبغي أن يواجه بالرفض إبّان صعود التيّارات الشمولية في تلك الفترة كالتنظيمات “الشيوعية ، والفاشية ، والنازية” إذ رأى أن خيار الإنسان بات معدوماً أمام تطرّف تلك التنظيمات المرعبة .
وقد كتب كثيرون من المفكرين والأدباء حول شرط (بول فاليري) الإنساني وهيمنة التاريخ لكن الشاعر (بول فاليري) كان متفرداً حين يقول :
“في التاريخ يزول الأشخاص الذين لم تقطع رؤوسهم ، والأشخاص الذين لم يساهموا في قطع الرؤوس دون أن يتركوا أثراً يذكر . يجب أن يكون المرء ضحيةً أو جلاداً ، وإلا فإنّه لاقيمة له” .
كما يقول الأديب الألماني(إريش كستنر) على لسان إحدى شخصيات مسرحيته “مدرسة الديكتاتوريين” متأثراً بطروحات (بول فاليري) :
“إن علينا أن نحافظ على رؤوسنا حين يقوم الآخرون بصناعة التاريخ . ذلك أنّه حين يُصنَع هذا التاريخ ، سلباً أو إيجاباً ، فإن البسطاء يكونون هم الضحايا” .
وكان الشاعر (ت. س. إليوت) قد كتب في مقالة له عن المعتمد (الكانون) الأدبي بوصفه نسقاً من النُصُب . ورغم أن العديد من النُصُب التذكارية التي ليست جديرة بالاحتفاء مثل – نصب (روبرت إي . لي .. وكريستوفر كولومبوس) ، وآخرين ، فإن إعادة تقييم الأعلام في الأدب عملية ماتزال مستمرة منذ عدة سنوات ، وإن الشاعر الإنكليزي (ت .س. إليوت) نفسه ، والذي كان مهيمناً على المشهد (الأنغلوفوني) مثل تمثال رودس ، يبدو الآن أقرب إلى متحدث بليغ وغريب الأطوار باسم التقاليد الإمبراطورية .
لقد حقق (بول فاليري) قَدَره الملتبس في التحول إلى أحد تلك النُصُب التذكارية أثناء حياته ، وكان يجسد ( رجل الأدب homme des lettres ) في جوهره بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية ، حين كان الممثل الفرنسي الثقافي في (عصبة الأمم) والمحاضر المعلِّق الذي لا يَكِّل . ومن خلال المناصب الأكاديمية التي احتلها ، وكتبه التي نشرها وهي 20 كتاباً في الأجناس الأدبية والفلسفية المختلفة ، كان شعره هو الذي أسّس عليه معظم سمعته ، رغم أنه جزء بالغ الصغر من كل ماتركه .
ولابد من الإشارة بأن (فاليري) كان في بدايته مساعداً لمن يمكن تسميته (بطريرك الرمزية ستيفان مالارميه) ، ومشاركاً متحمساً في الحركة “الانحلالية بجماليتها المفرطة ، والتي كان يتزعمها (ج. ك. هايسمانز) في قصائد “مجموعة أشعار قديمة” التي كتبها قبل أزمة 1892 الفكرية والتي قادت (فاليري) إلى التخلي عن كتابة الشعر لأكثر من عقدين ، إنما كانت مجرد تمارين شكلية مذهلة ودقيقة تكتنز بزخرفات نهاية القرن التاسع عشر : شخصيات كلاسيكية (هيلين، فينوس، أورفيوس، نارسيسوس) وتتخذ أوضاعها التاريخية كشخصياتٍ أنثوية واهنة تومئ في نشوة جامدة !!.. وكثيراً ما يعثر المرء على اللون “اللازوردي”، من خلالتلك الزرقة الشعرية التي كانت مهيمنة طوال سنوات نهاية القرن التاسع عشر .
في عام 1912 تمكن (أندريه جيد) والناشر (غاستون غاليمار) من إعادة (بول فاليري) ، إلى الشعر مقترحين جمع أعماله المبكرة ، ودفعاه إلى البدء بتنقيح قصائده التي طواها إهماله طوال عشرين عاماً ، ليبدأ فيما رأى أنه وداعية للشعر في 40 سطراً .
بعد أربعة أعوام ، صارت الأربعون قصيدة “بارك الشابة” ، أعظم قصائده وواحدة من روائع الأدب الفرنسي المعروفة ، تماماً مثل قصيدتي بطريرك الفلسفة الفرنسية (مالارميه) اللتين بعنوان “هيرودياد ، و بعد ظهيرة إله الريف الأسطوري” ، في حين تأخذ قصيدة “بارك الشابة” أسلوب المونولوج الداخلي الذي تتحدث فيه إحدى “الأقدار ، أو البارك” الفتاة التي على مشارف البلوغ ، والممزقة بين الذاكرة وبين المعرفة المسبقة ، المستيقظة على غوامض الرغبة :
أيتها الأشباح العزيزة الصاعدة
التي يتماهى عطشها مع عطشي
رغبات ..
وجوهٌ مضيئة ..
وأنتِ ، يا فواكه الحب ..
هل منحَتني الآلهة هذه الأشكال الأمومية !!..
الانحناءات المشعة ..
والثنيات والكؤوس
لكي تعانق الحياة معبد اللذة !!
حيث الروح الغريبة تمتزج بالعودة الخالدة ..
وتستمر البذرة ، والحليب ، والدم بالتدفق !!
إنني مملوءة بضوء الرعب .. بالانسجام الفاسد !!
لتكون القصيدة حركةً أوبرالية ، حسب تحرك (بارك) عبر الأحلام وفي الذاكرة والتطلعات وهي تفكر في الانتحار وترفضه ، لأن الروح الخالدة قادرة على أكثر التصورات كمالاً مهما كانت القيود التي تجعلها مربوطةً إلى جسدٍ فانٍ ممزقٍ بالانفعالات والعواطف .
لم يبدع (بول فاليري) في الوصول مرة أخرى إلى ذروة الطاقة والتوتر كما في قصيدة “بارك الشابة” ، رغم تركيز النقاد على”المقبرة البحرية” القصيدة المركزية في ديوان “تعاويذ” (1922) التي رأوا أنها تحقق قدراً أكبر من العمق لتكون قصائده تأملات حول قضايا الحياة والموت ، والتقاليد ، والذاكرة ، والحنين ، وحول الوجود الجسدي في علاقته بالكمال الروحي الذي يبدو أن الفن يمنحه خلوده . أما المونولوج الذي يقوله ثعبان الجنة التوراتي والذي هو (إبليس الشيطان) ، في “تخطيط الثعبان Ébauche d’un Serpent” فقد عبّر الشاعر الإنكليزي (و. ه. أودن) عن إعجابه به قبل أن يعتبره محاكاةً ساخرةً بعد 25 عاماً ، إذ ينجح ثعبان (فاليري) في استقطار معظم الحجج اللاهوتية التي جاءت لدى ثعبان (جون ملتون) في قصيدة “الفردوس المفقود” .
وإذا كان (مالارميه) كاهن ديانة الشعر السحرية وخيميائي اللغة الفرنسية ، فإن (بول فاليري) كان يأمل أن يكون الكيميائي والمكتشف العلمي شديد التدقيق في كل الكلمات مجتمعة . لأنه في عام 1889 ، وهي فترة مبكرة ، قدّم (فاليري) مفهوماً جديداً للشعر وحديثاً بالكامل . ولم يعد ذلك المجنون الأشعث الذي يكتب قصيدة كاملة ومحمومة في ليلة واحدة . كان وكأنه ذلك العالِم الهادئ ، عالِم جبر الرياضيات تقريباً الصادق في خدمة حالِمٍ مرهف ، كما قال (ت. س. إليوت) في مقالته المعنونة “من بو إلى فاليري” والتي قال فيها :
“لقد أعيد تنسيق البرج العاجي ليصير مختبراً”.
المفارقة في هذه الفكرة الحديثة في ظاهرها حول العالِم – الشاعر (بول فاليري) هي الموضوعات التقليدية التي كان يطرحها وبإلحاح حول الحب ، والموت ، والقدر ، والجمال ، وكان عالم الحداثة الذي يرفضه في الغالب . قد يكون مُستغرَباً اليوم ذلك الانقياد القوي الذي كان لدى (بول فاليري) ، والذي لم يتجاوز الأشكال التقليدية للشعر الفرنسي ، وإنما أيضاً لاستخدامه مفردات معقدة والتفافية ، كنوع من المجازية المتواصلة والمحيرة أحياناً . فكانت الشمس التي تمشي فيها “قدر – بارك” ليست هي “الشمس soleil ” اللفظة الفرنسية السهلة، وإنما كانت الإله المشع “le dieu brilliant” ، أو أن الأشواك التي تمزق فستانها هي الزهر البري المتمرد “la rebelle ronce” .
ولذلك ، فإنه سيكون من الظلم إعتبار الشاعر الفرنسي (بول فاليري) واحداً من النُصُب الشعرية أو الفكرية الميتة .