أخر الأخبار

أسباب السقوط فى مقدمة ابن خلدون

(1)

أسباب السقوط في ” مقدمة ابن خلدون” ..

                        د.علي أحمد جديد

يُعتَبَر كتاب “المقدمة” للمفكر العربي الكبير (عبد الرحمن بن خلدون) من أهم الإنجازات الفكرية التي عرفها الفكر الإنساني منذ العصور الوسطى وحتى اليوم ، ويتخذه المفكرون العالميون مرجعاً أساسياً وركيزتهم في علوم التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع ، كما في الجغرافيا والعلوم السياسية وغيرها . وقد تحدّث في جزء من مقدمته الشهيرة بإسهاب عن مستويات الضرائب المرتفعة التي تفرضها الدول على مواطنيها ، وباتت تعاني منها كل المجتمعات الإنسانية اليوم ، وعرضَ أبرز النتائج الكارثية لذلك . إذ يخصص (ابن خلدون) في مقدمته جزءاً مهماً للحديث عن موضوع الضرائب ، فكان بلا منازع رائد الفكرة التي تقول :

” إن معدلات الضرائب المرتفعة تقلّص القاعدة الضريبية لأنها تقلل من النشاط الاقتصادي” ..

وهي النظرية التي ارتكزت إليها كل النظريات اللاحقة ، وقام عليها ما بات يُعرف إلى يومنا هذا باسم 

     “اقتصاديات جانب العرض” 

التي ركّزت على الحوافز وعلى التخفيضات الضريبية كوسيلةٍ مُجديةٍ للنمو الاقتصادي .

لقد بيّن (ابن خلدون) أن معدلات الضرائب المرتفعة تقتل الحافز على العمل والانتاج ، وهذا ما أثبتته التجارب المختلفة في كثير من الدول ، المتخلِّفة منها والنامية وكذلك المُتقدِّمة على حدٍّ سواء . ويعرف الاقتصاديون في العالم كله (آرثر لافر) ونظريته الشهيرة “Laffer Curve” ، التي تُعبِّر عن علاقةٍ “مفترضة” بين النشاط الاقتصادي وبين معدل الضرائب ، حين يشير فيها إلى وجود معدل ضريبي “مثالي” يزيد من إجمالي الإيرادات الضريبية للدولة ، وأنه كلما زادت الضرائب عن المعدل المنطقي صار التأثير عكسياً فتتضاءل معدلات التنمية وتقلُّ بالمقابل الإيرادات والتحصيلات . ويجهل الكثيرون بأن جذور هذه النظرية قد جاءت مُتَضَمَّنةً في (مقدمة ابن خلدون) الذي أكّدَ ضرورة تنبّه الحكومات إلى موضوع الضرائب المرتفعة ، بل وصل في عرضه إلى أنَّ فرضَها سيؤدي لانهيار الدولة حين يقول : 

– “اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية … قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده ، فيكون خِراجها وإنفاقها قليلاً .. ثم لا تلبث أن تأخذ بِدَين الحضارة في الترف وعوائدها … فيكثر خِراج أهل الدولة ويكثر خِراج السلطان ، خصوصاً ، كثرةً بالغة … ولا تفي بذلك الجباية ، فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية … فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يُضِرُّ بها على البياعات ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدينة .. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة ، وذلك لتسديد ديون الاقتراض والإنفاق الضخم دون موارد حقيقية وإنتاج محلي قادر على تسديد هذه الفواتير المتراكمة وهو ما يثقل الدولة بالدَين العام الكبير” . 

ولكن رغم عدم صلاحية هذه النظرية في تحفيز الأفراد على المبادرة الفردية واقتحام السوق بدلاً من انتظار الوظائف وهو ما ينعكس سلباً على تعاظم الركود ، إلا أن الكثير من الاقتصاديين – وخاصة في الدول العربية – لديهم ولع بتشديد زيادة الضرائب على المواطنين . ويحدث ذلك في الوقت الذي كان العالم الإسلامي والفيلسوف التاريخي (ابن خلدون) يضرب هذه النظرية في صميمها منذ القرن الرابع عشر الميلادي ، ويرفضها كلية رغم الفارق الزمني الكبير والتباين في أدوات المعرفة وندرة التجارب البشرية بين الماضي وبين الحاضر . حيث ابتكر نظريةً (سوسيولوجية) عامة للتاريخ ، وأصبح من خلالها واحداً من أهم المفكرين الأصليين في العصور الوسطى . وبجانب تَفرّده الفكري كان(ابن خلدون) رجل دولة مخضرماً ، ولكنه غادر الحياة السياسية وحاول الابتعاد عنها بعد تعرّضه للكثير من الدسائس ، وربما هذا ما جعله يدخل في عزلةٍ تامة لأكثر من 3 سنوات قام خلالها بكتابة تاريخ المغرب العربي المعاصر .

وكما أنه مؤسس (علم الاجتماع) الذي يعتبره علماء الأنثروبولوجيا في العالم “سلفهم الفكري” والذي أنتج أيضاً فلسفات عظيمة في الموسيقى والأدب البربري ، وفي التربية والاقتصاد والغموض ، كما يعتبرونه الدليل الموسوعي لجميع المعارف منذ القرن الرابع عشر وحتى الآن . 

يرى (ابن خلدون) أن الضريبة هي الطريقة المفضلة للكثير من الحكومات في الحصول على إيرادات الإنفاق ، لكن المشكلة تبرز عندما تكون هناك اختلافات في الرأي حول معدلات الضريبة . حيث يجادل الكثير من الاقتصاديين اليوم ، وخاصة الليبراليون منهم ، بأن الحصول على عائدات ضريبية أعلى يتطلب في المقابل خفض معدل الضريبة ، وهي أسس اقتصادية أقام جذورها (ابن خلدون) وذكرها في كتابة “المقدمة” ، حيث رأى بأن الضرائب المرتفعة ستجعل الناس ينتشرون في كل مكان بحثاً عن القوت ، وبأنهم سيهربون إلى أماكن خارج الولاية القضائية لحكومتهم .

وتُعَدَّ نظرية (ابن خلدون) في الضرائب ، واحدة من أهم مساهماته في الفكر الاقتصادي العالمي ، لأنها تربط بين آليات فرض الضرائب وبين الإنفاق الحكومي ، فكان أول الآباء المؤسسين لهذه النظرية ، ومن المؤيدين لها بشدة ليس فقط كفيلسوف وكمفكر اقتصادي واجتماعي وحسب ، بل وكرجل دولة أيضاً تولى المسؤولية وعرف بذكائه العِلمي المستنير نقاط ضعف كل قرار يمكن اتخاذه لزيادة موارد الدولة ، ولهذا أوصى بضرورة خفض معدل الضريبة حتى لا تُقتَلَ حوافز العمل والانتاج كنتيجة حتمية ومباشرة . 

يؤكد (ابن خلدون) على أن الضرائب تحقق عائدات أكبر في حال خفضها ، وكان يدافع بشدة عن سياسة (الحكمة) في فرض الضرائب على المواطنين وفي سياسة إنفاق المال العام ، لأن رفع معدلات الضرائب لتعويض الخسائر والعجر يرهق الناس ويساهم في انكماش النشاط الاقتصادي . وتعتمد أسس نظريته على ترشيد (النفقات الحكومية) لأن العبث بها – في نظريته – يوفر المبررات الواهية للحكومات في فرض المزيد من الضرائب . ويطالب (ابن خلدون) الحكومات “بالصدق مع الناس” ، لأن هجمات التَعَدّي على ممتلكات الأشخاص تُدمِّر الحافز لاكتساب الممتلكات أصلاً ، وهو ما يُرسِّخ ثقافة الاتكال والكسل بين المواطنين . وإذا كانت حيازة الممتلكات مصيرها النهائي في دَسِّ الضرائب المُرهِقَة بيَدِ الحكومة ، فسيختفي الدافع لاكتساب المزيد من العمل والإنتاج ، وبالتالي التوقف عند نقطة ما تُحدِّده الحكومة من نِسَبٍ تصاعديه على الدخل والإنتاج .

كما يعتبر (الضرائب) انتهاكاً لحقوق الملكية ، ويمكنها تدمير الحافز ، واللجوء في المقابل إلى نشاطٍ طفيف ، لأن الحضارة والرفاهية والازدهار التجاري يعتمدون أساساً على (الإنتاج) وعلى جهود المواطنين في جميع الاتجاهات . ويوضح بأن التوقف عن المكسب هو نتيجة الخوف من الإجراءات المُشدَّدة على الربح .

ويقرر (ابن خلدون) بأن الأعمار الطبيعية للدول كما هي للأشخاص ، وهي أعمارٌ محدودة ، وأن عمر الدولة في الغالب لا يتعدى في عمرها الزمني أعمار ثلاثة أجيال ، و هذا الأمر كذلك هو عند (أفلاطون) أيضاً .

وإلى جانب ذلك العمر الافتراضي الطبيعي للدول بمؤسساتها وبمرافقها فإنه ثمة عوارض ذاتية أو موضوعية قد تعتريها وتؤثّر على مسيرة حياتها زيادة أو نقصاناً ، ولكن عوامل سقوط الدولة وانقراضها على ضوء نظرية (ابن خلدون) الشهيرة يمكن ترتيب ذلك بما يلي :

1)ــ إرهاف الحَدّ مُضرٌّ بالمُلكِ ومُفسد له في الأكثر .. والذي هو اليوم (القمع وتقييد الحريات العامة) ، وقد أظهر (ابن خلدون) ذلك حين ذكر في مقدمته الشهيرة بأن المَلِكَ :

“إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم ، وحماية بطانته من النقد أو المحاسبة شمل المواطنين الخوفُ والذُلُّ ، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة ، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم ، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ، ففسدت الحماية بفساد النيات ، وربما أجمعوا على قتله ، وبذلك تفسد الدولة ويخرب السياج ..” .

وبذلك يكون “المكر والخديعة” من قِبَلِ الشعوب التي لم تقف اليوم مُدافعةً عن حكامها ، وقد تساقطت عروشُ بعضهم وتهاوت على إثرها عروش آخرين ، فمن مظاهر “المكر والخديعة” تلك الأصوات التي ينافق بها البعض رغبةً أو رهبَةً في الانتخابات !! لكنها ساعة الحسم تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف ، بل وربما يتحوّل الصديق إلى عدو ، أو تُقْدِمُ الأمّة على قتله كما حصل في العراق وليبيا ، أو طرده أو ترحيله ومحاكمته كما حدث في كلٍّ من تونس ومصر ، وكل ذلك كان بسبب إرهاف الحَدّ الذي طال على الأمّة .

2) ــ ضرب المكوس أواخر الدولة ..

إذْ يقول ابن خلدون :

 “تَستحدثُ الدولة أنواعاً من الجباية تضرُّ بها على البياعات وتفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق – المعروفة اليوم باسم (القيمة المضافة) – وعلى أعيان السلع في مَوالِ المدينة ، وهي مع هذا تضطر لذلك بما دعاها إليه طرق الناس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية ، وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة ، فتكسد الأسواق لفساد الآمال ، ويؤذن ذلك باختلال العمران .. ” .

وهو ماتشير إليه اليوم أنواع الضرائب والرسوم والواجبات المفروضة على المواطن مقابل الحقوق التي له والتي لايتحصل على أغلبها ، وكل تلك الجبايات والرسوم لا تعود ريعاً على الدولة وعلى مصالح الناس كما هو الأصل منها بقدر ما تعود على بعض المُقرَّبين الذين ذكرهم (ابن خلدون) وكما نلمسها نحن اليوم ، وقد زادت كما هو معروف في الآونة الأخيرة في مئات وآلاف المشاريع الاستثمارية التي فسدت بعد أن كسد السوق بفعل فساد الآمال من العوائد “الأرباح” ، وأصبح لكل مستثمر شريك له من المتنفذين يحميه بلا وجه حق ، فغادر المستثمرون البلاد بفعل اشتراطات الأبناء والأولاد ، واختل العمران .

3)ــ تجارة السلطان مُضرَّة بالرعايا ومُفسِدَة للجباية .

وفي هذا يقول (ابن خلدون) : 

“فإن الرعايا متكافئون في اليسار ومتقاربون ، ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب . وإذا رافقهم أحد من رجال السلطان في ذلك ومالُه أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ، ويدخل على النفوس من ذلك غمٌّ ونكد ..” .

وهو يشير بذلك إلى تجارة المسؤولين في الدولة التي تُحرِّم كل دساتير العالم وقوانينها تقريباً الجَمع بين التجارة والسياسة ، ذلك لأن تداخلاً في المصالح العامة والخاصة قد يطرأ على العملية التجارية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولأن النفوس البشرية ضعيفة أمام المال ، فتضطر إلى التكسب غير المشروع ، ويتفشّى الفساد الذي يُضِرُّ في نهاية المطاف بالطبقة الدنيا من الناس (الأغلبية) . كما أن ارتباط الثروة أيضاً بالجاه الاجتماعي له ارتباطه الوثيق ، ومتى ما اجتمعت الثروة والمسؤولية في جماعة ما ، فسدت التجارة وأفسدت السياسة معها ، ويصبح المال حِكراً على جماعةٍ دون أخرى ، ولهذا نَبَّهَ الله في كتابه الكريم إلى ذلك الأمر ونَهى أن يكونَ المالُ “دولةً بين الأغنياء” فقط دونَ غيرهم . وكما رأى الجميع أنه ما من طاغيةٍ سقط إلا وكان من أثرياء القوم وأغنى الأمّة ، مهما عانت الأمة من الفقر والاحتياج ، كما كان (الشاه) في إيران وكان هذا أحد أبرز أسباب سقوطه المباشرة .

ويقول (ابن خلدون) :

 “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهاكها من أيديهم ، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في الاكتساب ، فإذا كان الاعتداء كثيراً وعامّاً في جميع أبواب المعاش ، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملةً بدخوله من جميع أبوابها . وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته ، والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب . فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران . وإن للبقاع تأثيراً على الطباع ، فكلما كانت البقعة من الأرض ندية مزهرة أثّرت على طبع ساكنيها بالرِقّة . كما أنّ تنظيم الحياة الاجتماعية وتصريف أمور المُلك يتطلّب الرجوع إلى قوانين سياسية مفروضة يُسلّمها الكافة وينقادون الى إحكامها .

(2) 

أسباب السقوط في ” مقدمة ابن خلدون”

  والصراعات السياسية لا بدّ لها من نزعةٍ قَبليّة أو دينية لكي يُحفِّزَ قادتُها أتباعهم على القتال والموت ، فيتخيّلون أنّهم يموتون من أجلها . والظفر في الحروب إنما يقع بأمور نفسانية وهمية ، وإن كان السلاح والقتال كفيلاً به ، لذلك كان الخداع من أنفع ما يُستعمَل في الحرب ويُظفَر به . والنَّاسُ في السَّكينةِ سَواء ، فإن جَاءتِ المِحَنُ تَبايَنُوا .

وقد يحصل أنّ الدولة تأخذ بمظاهر القوة والبطش لكنّها إفاقة قريبة الخمود ، وهي أشبه بالسراج عند انتهاء الزيت منه ، فإنّه يتوهّج لكنه سرعان ما ينطفئ . وإذا دخلت الدولة في سِنّ اليأس لا تعودُ لشبابها أبداً مهما حاول حُكّامُها التغيير ، فلكلّ زمانٍ دولةٌ ورِجال . وقبل أن تنهار الدول يكثر المنجّمون والأفّاكون والمتفيهقون والانتهازيون وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر . وحينما يَنعُم الحاكمُ بالتَرفِ والنِعمة ، تلك الأمور تستقطب له ثلّةً من المرتزقين والوصوليين فيحجبونه عن الشعب ، ويوصلون له من الأخبار أكذبها . والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها حتماً ، ويُظهِر الشعبُ الولاءَ للحاكم ويُبطِنُ له الكرهَ والبغضاء ، فإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون . وإذا تأذّن الله بانقراض المُلْكِ من أمّة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها ، وهذا ما حدث في الأندلس وأدّى فيما أدّى إلى ضياعه . وإذا رأيتَ الدول تنقص من أطرافها ، وحكّامها يكنزون الأموال فدُقَّ ناقوسَ الخطر . وكلّ أمرٍ تُحمَل عليه الكافة حَمْلاً (كرهاً) فلا بُد له من العصبية (القبيلة والنصرة) وفي الحديث الشريف :

“ما بَعثَ اللهُ نبيّاً إلا في مَنَعةٍ من قومه” .

إنَّ أيّام الأمنِ وأيام الرَّغد تمضي سريعاً ، وإنَّ أيّامَ الجوعِ وأيّامَ الحروبِ والفتن تكون طويلة .

وانتشار الفساد يدفع بعامّة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش ، وبداية لشَرخٍ يؤدّي إلى انهيار الدولة . ولأن غاية العمران هي الحضارة والترف ، فإنه إذا بلغ العمرانُ غايتَه انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم ، كالأعمار الطبيعية للحيوانات . ومن أهمّ شروط العمران سَدّ حاجة العيش والأمن :

“أطعمَهُم من جوعٍ وآمَنهُم من خوف” .

ولا يقعُ الظلم إلا من أهل القدرة والسلطان . فإذا عَمّ الفساد في الدولة فإنّ أولى مراحل الإصلاح في الدولة هي الفوضى . وكلما فقد الناس ثقتهم بالقضاء تزداد حالة الفوضى ، والفوضى أولى علامات الإصلاح ، فالقضاء هو عقل الشعب ومتى فقدوه فقدوا عقولهم .

أما الحاشية والأمراء فلا يتركون غنيّاً في البلاد إلا وزاحموه في ماله وأملاكه ، مُستظلّين بحُكمِ سلطانٍ من صنعتهم ، ولا تستقيم رعيّةٌ في حالة كفرٍ أو إيمان بلا عدلٍ قائمٍ أو ترتيبٍ للأمور يُشبه العدل . والعدلُ إذا دام عَمَّر ، والظُلمُ إذا تفشّى دَمَّر . وإذا كانت النفس على حال الاعتدال في قبول الخبر ، أعطته حقَّه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه ، وإذا خامرها تَشيّعٌ لرأي أو نِحلة قَبِلَتْ ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ، وكان ذلك المَيْلُ والتشيّع غِطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص ، فتقع في قبول الكذب ونقله . واعلم أن فَنَّ التاريخ فَنٌّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سِيَرِهم ، والملوكِ في دُوَلِهم وسياستهم حتى تتمَّ فائدةُ الإقتداء . وإن الاجتماع الإنساني ضروري لأن الانسان مدني بالطبع ، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية . ومن العجز عن استكمال وجوده وحياته ، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه . أما العصبية فهي نزعة طبيعية في البشر مُذْ كانوا ، ومن هذا الباب الولاءُ والحِلفُ ، إذْ أن نصرة كل أحدٍ من أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس في اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجهٍ من وجوه النَسب ، وذلك لأجل اللُحمة الحاصلة من الولاء . والغاية التي تجري إليها العصبية هي المُلْك . ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب ، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه ، فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة . وإن من أهم عوائق المُلْك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم . لأن عوائق المُلْكِ المُذلِّة للقبيل والانقياد إلى سواهم . لأن المُلكَ إذا ذهب عن بعض الشعوب من أُمّة فلا بد من عَودِهِ إلى شعبٍ آخر منها ما دامت لهم العصبية” .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى