رحمة ونور .. قصة قصيرة بقلم / محمد على عاشور

رحمة ونور .. قصة قصيرة بقلم / محمد على عاشور
استيقظ يا ولدى اليوم هو الموسم .
سمع الولد صاحب التسع سنوات الكلمة ، فهب من نومه مسرعاً ليذهب مع والدته إلى المقابر ، والموسم يعنى له ثلاثة أشياء ، فى الصباح المقابر ، وبعد الظهر حصان الحلوى الأحمر ، وفى المساء يأكل اللحم .
يتبع الولد والدته وقد ارتدى جلبابه الذى يستعمل حجره لوضع القرص الحشوة بالعجوة أحياناً ، والمحلاة بالسكر أحياناً أخرى، والتى تخبز فى كل الأحيان باللبن ، وبعض النساء يخرجن الكثير من الفاكهة لتوزيعها على المقابر .
تحمل والدته على رأسها سبتاً به الكثير من القرص القليلة التى خبزتها لتخرجها رحمة ونور على والده .
ينطلق الولد خلف أمه وهو يعلم أن والدته تركت كثيراً مما صنعت لهم فى البيت ، فهى توزع القليل الذى تأخذه على أمل أن يعود الابن بالكثير مما تخبزه النساء اللاتى يغدقن على الصغير مما معهن وهى تقول لهن فى رفض المحتاج : راضوا الأطفال الآخرين ابنى ليس مهماً .
تقول هذه الكلمات وقد نظرت فى الأرض من ضيق الحال .
بعد أن تملأ النساء حجور الأطفال ، يضعن كل ما تبقى فى سبتها .
يظل الولد يجرى خلف أمه التى ما أن تصل إلى المقابر حتى يعلو صراخها الذى يشق الصدور ليذكر كل واحدة بميتها ، ومع ذلك يحطن بها لمواساتها ، ويربتن على كتفها ، و تأخذها إحداهن فى صدرها لتوقفها عن الصراخ لتدخل فى نوبة من البكاء ، ولا تتركها النساء حتى تتوقف عن البكاء على زوجها الذى لم يمر على وافاته عام وقد ترك لها أربعة أطفال، أكبرهم هذا الولد .
تتوقف المرأة البكاء و مازالت الدموع تنزل على خديها وهى تمسحها بكمها ، وعندها يتقدم الولد وأقرانه الجالسون بالقرب من النساء وقد رفعوا ذيول جلابيبهم ، لتظهر أقدامهم الدقيقة من تحت ملابسهم ، لتحمل أجسامهم الضعيفة.
يتلقف الأولاد ما يأخذونه فى حجورهم من فاكهة وقرص ، وأول حجر يمتلئ حجر الصغير ، ثم حجر باقى الأولاد ، و بعدها تسكب النساء ما تبقى معهن من الرحمة والنور فى سبتها ، وهى تقول وقد نظرت فى الأرض : والله أنا عندى كثير الحمد الله .. مستورة .
تغطى سبتها وتنهض واقفة ، وقد ارتسم على وجهها ابتسامة الرضا ، ثم تنظر إلى السماء ، وتنصرف .
يتبع الولد والدته ، وما أن يقترب من البيت حتى ينطلق ليسبق والدته ، فيوقظ إخوته ، ليريهم فطورهم .