الدكروري يكتب : النفس والوفاء بالحقوق

الدكروري يكتب : النفس والوفاء بالحقوق
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمدك اللهم حمدا ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء، وأشكرك وأستغفرك، وأشهد أنك أنت الله وحدك لا شريك لك، ولا حول ولا قوة إلا بك، بك نحول، وبك نصول، وبك نقاتل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدك ورسولك الذي جاهد في الله حق جهاده، جاهد بسيفه ولسانه وسنانه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه أما بعد، روي عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كيف أنتم؟ وكيف حالكم؟ وكيف كنتم بعدنا؟ قالت بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت، قلت يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟
فقال ” إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان” وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صوت هالة أخت السيدة خديجة، فبرقت أساريره، وابتهجت نفسه، وقال “اللهم هاله بنت خويلد” فقال النووي رحمه الله “وفي هذا كله دليل لحسن العهد، ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب” ولقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فيما رأينا من عظيم وفائه وحفظه للعهود، ورده للجميل، وإن ذلك ليتأكد في حق الوالدين حيث أوصى الله بحقهما بعد حقه فقال تعالى ” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا” فإن صلة الوالدين قربة وحديثهما طاعة، ودعاؤهما بركة فهما أحق الناس ببرك ووفائك، وأولى الناس بحُسن صحبتك وإحسانك.
وخاصة عند الكبر والضعف ومظنة الحاجة، فقد كنت في صغرك زينة حياتهم، وريحانة قلوبهم، وغرس آمالهم، يسعدان لفرحك، ويبكيان لمصابك، ولا يسأمان من الدعاء لك فإن برهما أعظم أجرا من الهجرة والجهاد في سبيل الله، فقيل أن رجلا أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ” فهل من والديك أحد حى؟ قال نعم، بل كلاهما، قال “فتبتغى الأجر من الله؟ قال نعم، قال ” فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما” وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب وضعف الإيمان و الدين، فإن لم تشبع النفس وترضى بما قسم الله لها.
فلن يكفيها ملء الأرض ذهبا بل يكفيها ملء الكف ترابا، وإن من أعجب ما يقف عليه القارئ في الوفاء بالحقوق ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال ائتني بالشهداء، فقال كفى بالله شهيدا، قال فائتني بالكفيل، قال كفى بالله كفيلاً، قال صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها يقدم للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني قد كنت تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك.
وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدا من طلب مركب لآتيك فيه، قال هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا.