محمد آدم يكتب : الصهيونية ..2.. (نشأة الصهيونية )

محمد آدم يكتب : الصهيونية ..2.. (نشأة الصهيونية )
يعتقد البعض أنّ الصهيونية فكرة وليدة في القرن التاسع عشر، ولكن الواقع أنّ جذورها بدأَت حين تشرد اليهود قديمًا من فلسطين، أي منذ ثلاثين قرنًا من الزمان. وقد وضع اليهود الذين سِيقوا إلى بابِل عام (586) ق.م، فكرة العودة إلى صهيون، ورَدّدُوا هذه الفكرة في صلواتهم وأناشيدهم. وقد تأصّلَت هذه الفكرة طوال القرون التي تَلَت انهيار «مملكة يهوذا» عام (135) ق.م، وكانت سياط الحاكم وموجات الاضطهاد تثيرها من حين لآخر.
ولما سبق، فإنّه ليس من اليسير أبدًا تحديد مكان وتاريخ نشأة «الصهيونية»، لأنّها لم تظهر في مكان واحد، ولا زمان معيّن، بل نبتَت في أماكن شتَّى عبْر أزمنة متعدّدة. ومع هذا، يُمكن القول إنّ شرارة البدء أشعلتها أحداث العنف ضد اليهود في روسيا، والتي سُمِّيَت (المذبحة المنظمَة). لقد اشتُقت كلمة (pogroms) من الكلمة الروسية (pogromi) التي تعني (تدمير) وقد استخدموها لوصف المجازر التي حَلّت باليهود وتدمير ممتلكاتهم، ففي عام (1881)، اجتاحت روسيا موجة من الاضطهادات ضِدّ اليهود، بعد اغتيال القيصر «إسكندر الثاني». وقد شاع بين الأوساط اليهودية أنّ الاضطهادات والمذابح التي وقعت للجماعة اليهودية في روسيا قد تمّت بمعرفة الحكومة الروسية ودون تدخل منها لحمايتهم، وانهال سيلٌ جارف من الاتهامات اليهودية على جماعة المثقفين في روسيا لعدم تصدّيهم لهذه الأحداث، واتهموهم بالسلبية المقصودة/ المتواطئة. ومن بين أنقاض هذه المذبحة نهَضَت الحركة السياسية الصهيونية.
وفي الواقع، فإنّ المثقفين الروس قد خمنوا أنّ التخلّص من الجماعة اليهودية سيُحدث تغيّرًا اجتماعيًا في صالح العُمّال والفلاحين الروس، ولهذا فهم بالفعل لم يعترضوا على ما وقع من شعبهم وحكومتهم ضد اليهود، متشفِّعين بتوقّعِهم أنْ ينتهي الاستغلال اليهودي لطبقات الفلاحين والعمال.
إنّ معظم روَّاد الصهيونية الكبار عاصروا تجربة المذبحة هذه، فأنبَتَت في أرواحهم ونفسيّاتهم جذور خوف عميق، فظلّوا يخُطّون في مذكراتهم -حتى بعد سنوات طوال من انقضائها- كيف اختبأوا تحت الأَسِرَة والمناضد وداخل خزانات الملابس، بعدما عاث المتنمرون بهم قتلًا، دون خشية من رادع.
وكنتيجة لتلك الحادثة الضخمة، اجتاز أوائل اليهود التوّاقين إلى جبل صهيون عملية مسح جذرية، وأعادوا النهوض بها كفكرة سياسية حديثة، اتخذت شكلها الأخير وطابعها السياسي حين أكّد المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بازل سنة (1897) أنّ الصهيونية هي القومية الجديدة للشعب اليهودي، كما حدّدَ لها هدفًا قوميًا واضحًا، وهو إقامة دولة خاصة بهؤلاء القوم.
وبهذا السياق، يُمكن القول إنّ اليهود الأشكنازيم هم من ابتدعوا الصهيونية، كنتيجة للاضطهاد الروسي في شرق أوروپا، والاضطهاد النازي في غرب أوروپا. بل إنّ الموقف اليهودي الشرقي ظلّ رافضًا للحركة الصهيونية طويلًا، وأدانه معظم زعماء الطوائف اليهودية العربية، متوافقين بذلك مع الحكومات العربية التي كان لها موقف واضح الرفض ضِدّ النشاط السياسي الصهيوني، وضِدّ الحركة الصهيونية السياسية الأوروپية في فلسطين، وإنْ لم يكن قط موجهًا ضِدّ الطوائف اليهودية في العالم العربي.
وبالنظر المحايد لكل ذلك التاريخ، فإنّ الظاهرة الصهيونية هي ظاهرة مركّبة متعددة الأبعاد، ظهرت كفكرة في أوروپا في أواخر القرن السابع عشر، وتمّت بلورتها في منتصف القرن التاسع عشر، ترجمت نفسها في البداية إلى المنظمة الصهيونية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم أخيرًا إلى دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين.
أما تاريخ ظهور الصهيونية السياسية اليهودية كأداة أيديولوچية لكسب التأييد الدولي لإقامة دولة يهودية في فلسطين فيرجع إلى عام (1896)، حين نشر «هرتسل» كتابه «الدولة اليهودية». ثم قويت الصهيونية السياسية عندما وافق المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقده «هرتسل» عام (1897) على «برنامج بازل»، الذي دعا إلى وطن قومي آمن ومعترف به قانونيًا لليهود في فلسطين.
والدولة الصهيونية اليهودية هي دولة توسّعية، ضمّت كل أراضي فلسطين، وقامت بغزو لبنان، وظلّت تحقق الانتصارات العسكرية حتى عام (1967)، ثم بدأت تلحق بها الهزائم في مناوشات الاستنزاف، مرورًا بهزيمة (1973) وانتهاءً بالانسحاب من جنوب لبنان والسقوط في «المستنقع اللبناني» على حد قول الصهاينة. لقد واجهَت الصهيونية أشكالًا مختلفة من المقاومة العربية منذ عام (1882) حتى الآن.