الدكروري يكتب: العسر يسرا آخر

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا ثم أما بعد لقد كان الأنبياء والرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام يرسلون إلى أقوامهم خاصة، أما عموم رسالته صلى الله عليه وسلم فهى للثقلين الإنس والجن، وقال القرطبي والمراد بالعالمين أيضا الإنس والجن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوحا، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين، أحدهما هو عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة.
الثاني خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه، وإن من خصائص الألوهية هو التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فضلا عن غيره، شبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، بل إذا فتح لعبده رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد، فمن أقبح التشبيه هو تشبيه العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات، ومن خصائص الألوهية هو الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم، والإجلال، والخشية، والدعاء، والرجاء.
والإنابة، والتوبة، والتوكل، والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلا وشرعا وفطرة، أن يكون له وحده، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك من أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة، وإن موضوع الدعاء هو من مواضيع الإيمان، ومن مواضيع أعمال القلوب، التي لا يستشعرها، ولا يعيش لحظاتها، إلا من أوقد الله قلبه بحرارة الإيمان، وعمّره برياض ذكر الله، والإقبال عليه، وخشيته بالسر والعلانية، وإنه موضوع فيه احتساب للأجر، وفيه صبر لله تعالى، وفي ذات الله، وصبر على أقدار الله سبحانه، حيث يقول الله في محكم تنزيله ” أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون”
فمن الذي يجيب المضطر إذا رفع يديه لله عز وجل يطلب منه المدد؟ ومن الذي يجيب المسلم في لحظات الكرب والشدة، وهو يهتف داعيا ربه منيبا إليه، طالبا منه العون وتفريج تلك الهموم؟ فيقول تعالى ” فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا” فهذا العسر معرفة وهذا اليسر نكرة في الآية، ولذلك قال ابن عيينة رحمه الله “أي أن مع ذلك العسر يسرا آخر” كقوله سبحانه وتعالى فى سورة التوبة ” هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره”