أَرْضُ النُّورِ… قصة بقلم الكاتبة / تهانى عبد الفتاح عدس يُحْكَى أَنَّهُ عَلَى الأَطْرَافِ المُتَرَامِيَةِ مِنَ العَالَمِ، تُوجَدُ أَرْضُ تُعْرَفُ بِأَرْضِ النُّورِ. شَمسُهَا لَا تَغِيبُ، فَلَا يَأْتِي عَلَيْهَا اللَّيْلُ، وَلَا تَعْرِفُ الظَّلَامَ. يَقْطُنُهَا قَومٌ فَرِيدُونَ مِنْ نَوعِهِم. يُولدُ أَصْحَابُهَا بِمَلَامِحٍ بشريةٍ عاديةٍ. يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ سِمَةُ البَرَاءَةِ واللُّطْفِ واللِّينِ. طِبَاعُهُم هَادِئَةٍ؛ لَكِنَّهُمْ غَرِيبُو الأَطْوَارِ، وَمُخْتَلِفُونَ. فِى الغَالِبِ تَرَاهُمْ شَارِدِينَ الأَذٔهَان غَيْر مُبَالِينَ بِمَا يَحْدُثُ حَوْلَهُم. رُبَّمَا تَجِدْهُم يَتَحَدَّثُونَ بِلُغَةٍ مَفْهُومَةٍ لَدَيْنَا؛ لَكِنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ لُغَةً خَاصَةً لِلتَّوَاصُلِ بَيْنَهُم وَبَيْنَ أَبْنَاءِ قَوْمِهِمْ. هَذِهِ اللُّغَةُ رُبَّمَا تَصْدُرُ فِي صُورَةِ رُمُوزٍ، أَوْ كَلِمَاتٍ، أَوْ حَتَّى إَشَارَاتٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ. فَهُمْ يَفْهَمُونَ لُغَةَ الجَسَدِ، وَهُمْ قَارِءُونَ جَيِّدُونَ لِلْأَفْكَارِ. إِنْ رَأَيْتَهُم، تَظُنُّ لِلْوَهْلَةِ الأُولَى أَنَّهُمْ هُبِطُوا مِنَ المَرِّيخِ؛ لَكِنَّهُمْ فِيمَا يَبْدُو أَنَّهُم يَنْتَمُونَ إِلَى نِبْتُون كَوْكَبِ الأَوْهَامِ وَالأَحْلَامِ والمَاوَرَائِيَّاتِ. طَيِّبَونَ وَمُتَفَائِلُونَ لِلْغَايَةِ. يَحْمِلُونَ بِدَاخِلِهِم الكَثِيرُ مِنَ الخَيْرِ وَالمَحَبَّةِ وَالسَّلَامِ لِلْجَمِيعِ، وَيَحْلُمُونَ دَائِمًا بِعَالَمٍ أَفْضَلَ. مُسَالِمُونَ حَدَّ الجُبْنِ لَا يُجِيدُونَ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، وَلَا يَبْدَأُونَ حَرَبًا. يَبْتَسِمُونَ دَائِمًا بِابْتِسَامَةِ مُشْرِقَةٍ تُضِيءُ الكَوْنَ، وَتَمْلَؤُهُ بَهْجَةً وَفَرْحَةً لَامُتَنَاهِيَة. أَرْوَاحُهُم رَقِيقَةٌ كَقَطَرَاتِ النَّدَى. عِنْدَمَا تَسْطَعُ الشَّمْسُ عَلَيْهُم بِأَشِعَّتِهَا السَّاخِنَةِ، يَتَبَخَّرُونَ وَيَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَعُودُونَ فِي هَيْئَةِ مَطَرٍ طَيِّبٍ مُغِيثٍ يَجْرِي فِي نَهْرٍ عَذْبٍ، فَيَرْتَوِي مِنْهُ الظَمْأَى... تُصِيْبُهُمْ لَعْنَةٌ مُنْذُ وِلَادَتِهِمْ وَتَلَازُمِهِم حَتَّى المَمَاتِ، وَهِيَ لَعْنَةُ الإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ. لَدَيْهِمْ حَسَاسِيَّةٌ مُفْرِطَةٌ تُمَكِّنُهُمْ مِن اسْتِقْبَالِ إِشَارَاتٍ كَوْنِيَّةٍ تُعْطِيهِمْ قُوَّةً هَائِلَةً عَلَى الإِحْسَاسِ بِكُلِّ مَنْ يُحِيطُ بِهِمْ. فَيَقُومُونَ بِتَبَنِّي مَشَاعِرَ الأَلَمِ نِيَابَةً عَنِ المُنْكَسِرِينَ وَالحَزَانَى، وَالمَظْلُومِينَ، وَالمَقْهُورِينَ، وَالثَّكَالَى أَيْنَمَا كَانُوا، وَكَأنَّ هَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُهُمْ الأَسَاسِيَّةُ فِى الحَيَاةِ. يُسَاوِرُهُمْ هَاجِسٌ دَائِمٌ بِضَرُورَةِ الهِجْرَةِ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ المُظْلِمِ مِنَ العَالَمِ؛ لِمَدِّ يَدُّ العَوْنِ وَالمُسَاعَدَةِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَتَخْفِيفُ مُعَانَاتِهِمْ وآلَامِهِمْ. فَيَسْتَقِلُّونَ قَوَارِبَ الأَمَلِ وَيَبْحَرُونَ إِلَيْنَا حَامِلِينَ قُلُوبُهُمْ فِى كُفُوفِهِمْ. إِنْ أَحَبُّوا أَحَدَنَا، صَارَتْ قُلُوبُهُمْ رَقِيقَةً شَفَّافَةً، وَجَمِيلَةً بِجَمَالِ الزُّجَاجِ المُزَخْرَفِ بِأَلْوَانِ الطِّيفِ السَّبْعَةِ . إِذَا صَادَفَ حُبُّهُمْ أَرْضًا جَافَةً صَخْرِيَّةً، ارْتَطَمَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَتَهَشَّمَتْ، وَتَفَتَّتْ إِلَى شَظَايَا حَادَّةٍ كَحَدِّ السِّكِّينِ، وَتَنَاثَرَتْ فِي الفَضَاءِ؛ فَتَبْدُو فِي الظَّلَامِ وَكَأَنَّهَا نُجُومًا سَاطِعَةً تَتَلَأْلَأُ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. تَرْنُو إِلَيْهَا أَعْيُنُنَا فَنَقْتَرِبُ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا؛ لِنَسْتَنِيرَ بِنُورِهَا فِي ظُلْمَتِنَا؛ لَكِنَّهَا تَلْتَصِقُ بِأَجْسَامِنَا، ثُمَّ تَتَسَلَّلُ تَدْرِيجِيًا؛ لِتَصِل لِأَرْوَاحِنَا وَتَسْتَقِرَّ، فَتَنْشُرَ شَرَايِينَ قُلُوبِنَا نَشْرًا كُلَّمَا حَاوَلَتْ أَنْ تَنْبُضَ مِنْ جَدِيدٍ. فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْيَا كَمَا كُنَّا وَلَا نَعُدْ نَمْلِكُ حَتَّى رَفَاهِيةَ المَوْتِ. مَاذَا كَانَ ذَنْبُهُمْ عِنْدَمَا أَحَبُّوا؟ وَمَا ذَنْبُنَا نَحْنُ عِنْدَمَا اقْتَرَبْنَا؟ ذَنْبُهُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا النُّورَ وَأَتُوا إِلَيْنَا؛ لِيُشَارِكُونَا ظَلَامَنَا الدَّامِسَ. نَحْنُ هُنَا نَرَى بَرَاءَتَهُمْ، وَلُطْفَهُمْ، وَعَطْفَهُمْ، وَمَحَبَّتَهُمْ عَلَى إِنَّهَا ضَعْفٌ. نَرَى طِيبَتَهُمْ عَلَى أَنَّهَا غَبَاءٌ، وَعَدَمُ القُدْرَةِ عَلَى المُرَاوَغَةِ. أَمَّا المَاكِرُ وَالمُرَاوِغُ مِنَّا نَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ ذَكِيًّا. نَجِدْهُمْ لُقْمَةً سَائِغَةً فَنَزْدَادَ نَهْمًا وَرَغْبَةً فِي الغَدْرِ وَالاسْتِغْلَالِ، أَوْحَتَّى الفَتْكُ بِهِمْ. ذَنْبُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَبْدَلُوا النُّورَ بِالعَتْمَةِ، وَارْتَضُوا أَنْ يَعِيشُوا بَيْنَنَا كَالْبُلَهَاءِ، أَمَّا نَحْنُ، فَذَنْبُنَا أَنَّنَا اخْتَرْنَا أَنْ نَحْيَا فَاسِدُونَ!!! كُلَّمَا ازْدَادَ وَعْيُهُمْ، وَزَادَتْ خَيْبَاتُهُمْ، وَآلَامُهُمْ اشْتَعَلَتْ دَاخِلُهُمْ رَغْبَتَهُمْ فِي الانْسِحَابِ. كُلَّمَا اصْطَدَمُوا بِالوَاقِعِ الأَلِيمِ، ازْدَادَ إحْسَاسُهُمْ بِعَدَمِ الانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا المَكَانِ الَّذِي لَمْ يَعُدْ يُشْبِهَهُمْ. انْسِحَابَهُمْ لَيْسَ هُرُوبًا وَلَا اسْتِسْلَامًا، إِنَّمَا انْسِحَابًا لِلْحِفَاظِ عَلَى مَاتَبَقَّى مِنْ أَرْوَاحِهِمْ الَّتِي ضَلَّتْ الطَّرِيقَ. هَؤُلَاءِ القَوْمُ، هَجَرُوا أَرْضَهُمْ، وَجَاءُوا إِلَى هُنَا؛ لِيَعِيشُوا بَيْنَنَا غُرَبَاءٌ غَيْرُ مُبَالِينَ بِقَانُونِ أَرْضَ النُّورِ. فَمَنْ يَهْجُرْ هَذِهِ الأَرْضُ يَفْقِدْ حَقَّ المُوَاطَنَةِ، فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِلَاعَوْدَةٍ . هُمْ الآنَ يَعِيشُونَ غُرْبَةً مَعَنَا، وَغُرْبَةً أُخْرَى مَعَ أَنْفُسِهِمْ. فَرَحْمَةٌ بِهِمْ، أَنَّهُمْ قَوْمِي. أَنَا مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي. مُنْذُ أَنْ أَتَيْنَا إِلَيْكُمْ وَضَلَلْنَا طَرِيقَ العَوْدَةِ، أَصْبَحْنَا عَالِقِينَ هُنَا. نَتَكَّيَّفُ تَارَةً وَنَتَمَرَّدُ تَارَةً أُخْرَى. لَكِنَّنَا نَحْلُمُ دَائِمًا بِالعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِنَا: أَرْضُ النُّورِ.!!