أخر الأخبار

تهاني عدس تكتب سيأتى الربيع

سيأتى الربيع..

بقلم الكاتبة/ تهانى عبد الفتاح عدس

 

قُدِّرَ لِي أَنْ أَسْكُنَ إِحْدَى مَنَاطِقِ اَلْوَسَطِ اَلْغَرْبِي مِنَ اَلْقَارَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ. بَرْدُهَا قَارِصٌ، وَشِتَاؤُهَا طَوِيلٌ كَالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، لَهُ بِدَايَةٌ -وَيَبْدُو لنا كَأَنَّهُ بِلَا نِهَايَةٍ- أَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَوْتَ. يَجْعَلُ الْطَّبِيعَةَ وَكَأَنَّهَا فِي حَالَة اِنْتِحَارٍ جَمَاعِي، فَهُوَ يُمِيتُ كُلَّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ فِيهَا؛ حَيْثُ تَزْبَلُ الْزُّهُورُ، وَالْنَّبَاتَاتُ، وَالْمَحَاصِيلُ بِكُلِّ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ تَحْتَضِرُ

وَتَمُوتُ. تَتَعَرَّى الْأَشْجَارُمِنْ أَوْرَاقِهَا الْمُلَوَّنَةِ الَّتِي اِجْتَهَدَ الْخَرِيفُ الْمُتَقَلِّبُ فِي تَلْوِينِهَا، وَتُصْبِحُ فُرُوعُهُا كَالْعِصْيَانِ الْجَافَّةِ الْقَابِلَةِ لِلْكَسْرِ.

 

تُهَاجِرُ الْطِّيُورُ بِكُلِّ أَطْيَافِهَا فِي أسْرابٍ ضَخْمَةٍ، وَكَأَنَّهَا هَارِبَةٌ مِنْ غَزْوٍ فَضَائِي. وَتُهَرْوِلُ الْحَيَوَانَاتُ؛ لِتَخْزِينَ طَعَامِهَا، وَتَخْتَفِي كُلِّيًا عَنِ الْأَنْظَارِ فِي شَكْلِ بَيَاتٍ شِتْوِيٍّ، وَكَأَنَّهَا مُخْتَبِئَةٌ مِنْ خَطَرٍقَادِمٍ. فَلَا نَعُدْ نَسْمَعُ الْعَصَافِيرَ تُزَقْزَقُ.

وَلَا نَعُدْ نَشْهَدُ خِفَّةَ رُوحِ الْسَّنَاجِبِ، وَهِىَ تَتَسَلَّقُ الْأَشْجَارَ الشَّاهِقَةَ بِكُلِّ رَشَاقَةٍ. فَتَبْدُو الْأَرْضَ وَكَأَنَّهَا فِي حَالَةِ حِدَادٍ حَزِينٍ.

 

تَتَجَمَّدُ مِيَاهُ الْمَطَرِ، وَتَعُودُ فِي شَكْلِ جَلِيدٍ، يَتَسَاقَطُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِيُغَطِّيهَا بِطَبَقَةٍ بَيْضَاءٍ نَاصِعَةِ الْبَيَاضِ، فَتَبْدُو وَكَأَنَّهَا بُسَاطٌ أَبْيَضُ مَمْدُودٌ. ثُمَّ تَأْتِي أَسْرَابٌ مِنَ الْغِزْلَانِ، تَلْهُو وَتَلْعَبُ وَتَحُوطُ مَنَازِلَنَا، وَكَأَنَّهَا تَفْعَلُ هَذَا عَمْدًا؛ لِتُخَفِّفَ عَنَّا شَرَّ الْعُزْلَةِ الْقَاتِلَةِ وَالْوِحْدَةِ الْمُؤْلِمَةِ.

بَيْنَ الْحِينِ وَالْأَخَر، تُهَاجِمُنَا عَوَاصِفٌ ثَلْجِيَّةٌ؛ لِتُجْبِرَنَا -نَحْنُ الْسُّكَّانُ- عَلَى اِلْتِزَامِ مَنَازِلِنَا لِأَيَّامٍ، وَتُرْغِمُنَا عَلَى بَيَاتٍ شِتْوِيٍّ، مِثْلُنَا مِثْلَ الْسَّنَاجِب. نُغَادِرُ مَنَازِلَنَا فَقَطْ لِلْضَّرُورَةِ القُصْوَى؛ لَكِنْ قَبْلَ كُلِّ مَرَةٍ نَخْرُجُ فِيهَا نَضْطَرُّ إِلَى اِرْتِدَاءِ مَعَاطِفِ الْشِّتَاءِ الْمُنْتَفِخَةِ الثَّقِيلَةِ؛ لِمُقَاوَمَةِ الْبَرْدِ القَارِصِ.

 

عِنْدِي مَعْطَفٌ لِلْشِتَاءِ، أَرْتَدِيهِ عَلَى مضض(عَدَمُ رَاحَةٍ) لِلْتَدْفِئَةِ، لَكِنِّي لَا أُحِبُّهُ. فَلَوْنُهُ قَاتِمٌ كَقُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى، الَّذِينَ تَنْتَفِخُ أَوْدَاجَهُمْ عِنْدَمَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّنَا بِحَاجَةٍ إِلَيْهِمْ. فَهُمْ يُبَالِغُونَ فِي أَهَمِّيَّتِهِمْ، وَيَتَصَرَّفُونَ وَكَأَنَّهُمْ فَوْقَ الْجَمِيعِ. هُمْ نِرْجِسِيُّونَ فَوْقَ الْعَادَةِ، جَادُّونَ بِزِيَادَةٍ. أَرْوَاحُهُمْ ثَقِيلَةٌ وَكَئِيبَةٌ، كَلَيَالِي الْشِّتَاءِ. نَحْنُ سَيِّئُونَ دَائِمًا فِي رُوَايَاتِهِمْ الْعَفِنَةِ. فَهُمْ مَنْ أَهْلَكُونَا، وَاسْتَهْلَكُونَا، لَا سَامَحَهُمْ اللهُ، وَلَا عَفَا عَنْهُمْ.

لَقَدْ بَغَضْتُ مَعْطَفِي هَذَا لِأَنَّهُ يُذَكِّرُنِي بِهِمْ. فَهُوَ مُنْتَفَخٌ، يَجْعَلُنِي أَبْدُوأَكْثَرَ وَزْنًا مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. تَمَنَّيْتُ لَو يُضَافُ لِي طَبَقَاتٌ جِلْدِيَّةٌ أُخْرَى؛ لِتَمْنَحَنِي دِفْئًا ذَاتِيًا، فَلَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَهُمْ أَيْضًا، فِي حَضْرَتِهِمْ يَجْعَلُونَنِي أَشْعُرُ أَنِّي أَقَلُّ جَمَالًا مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ.

 

لَنْ أَنْسَى أَنَّهُمْ جَعَلُونِي يَوْمًا أَقْضِي لَيَالِىَالْشِّتَاءِ الْطَّوِيلَةِ أُحَدِّثُ نَفْسِي، وَأَتَسَاءَلُ: هَلْ أَنَا سَيِّئَةٌ لِهَذَا الْحَدّ؟!!

جَعَلُونِي لِوَهْلَةٍ أَشُكُّ أَنَّ وَجْهِي مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: أَنَا قَابِلَةٌ لِلْأَذَى!!!

كَيْفَ لِي أَنْ أُخْبِرَهُمْ أَنِّي كَرِهْتُ الْمَعْطَفَ، وَالْشِّتَاءَ مِنْ أَجْلِهِمْ!!

كَيْفَ لِي أَنْ أُخْبِرَهُمْ أَنِّي أَرْغَبُ فِي إِخْفَائِهِمْ، مِثْلَمَا أُخْفِي مَعْطَفِي الْقَبِيح عِنْدَمَا يَنْقَشِعُ الْشِّتَاءُ!!

 

الْحَيَاةُ فِي الْشِّتَاءِ أَكْثَرُ بُؤْسًا وَشَقَاءً، تَجْعَلُ مَلَامِحِي تَبْدُو مُتَجَهِّمَةً، وَتُشْعِرُنِي وَكَأَنَّ رُوحِي هَارِبَةٌ مِنِّي؛ لَكِنْ مَا يَجْعَلَنِي ابْتَسِمُ وَاسْتَعِيدُ قُوَاىَ فِي مُوَاجَهَةِ الْحَيَاةِ، هُوَ: إِيمَانِي بِأَنَّ الْرَّبِيعَ قَادِمٌ لَامَحَالَةَ. كُلُّ مَظَاهِرِ الْطَّبِيعَةِ سَتَحْيَا مِنْ جَدِيدٍ. سَيَتَبَدَّلُ الْحُزْنُ بِالْفَرَحِ وَالْسُّرُورِ.

 

سَتَعُودُ الْحَيَاةُ إِلَى الْطَّبِيعَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمُؤَقَّت. سَيَذُوبُ الْجَلِيدُ وَيَتَبَخَّرُ. سَتُرْسِلُ الْسَّمَاءُ مَاءَ الْمَطَرِ؛ لِتَرْوِيَ بِهِ الْأَرْضَ الْعَطِشَةَ. سَتَنْبُتُ الْحَشَائِشُ الْخَضْرَاءُ، وَتَتَلَوَّنُ الْأًرْضُ، وَتُصْبِحُ وَكَأَنَّهَا بُسَاطٌ أَخْضَرُ فَسِيحٌ. سَتَعُودُ الْمِيَاهُ؛ لِتَجْرِىَ مَرَةً أُخْرَى فِي الْأَنْهَارِ، وَالْبُحَيْرَاتِ.

 

سَتُنْبِتُ الْزُّهُورُ، وَالْنَّبَاتَاتُ، وَتَنْمُو أَوْرَاقُ الْأَشْجَارِ. سَيُلَوِّنُهَا الْرّبِيعُ بِلَوْنٍ أَخْضَرَ جَمِيلٍ، وَتُصْبِحُ وَكَأَنَّهَا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْجَنَّةِ. سَتَعُودُ الْطُّيُورُ الْمُهَاجِرَةُ إِلَيْنَا مَرَةً أُخْرَى؛ لِنَفِيقَ كُلَّ صَبَاحٍ عَلَى زَقْزَقَةِ الْعَصَافِيرِ، وَهَمْهَمَةِ الْحَمَامِ.

الْرَّبِيعُ، هُوَ: بَعْثٌ بَعْدَ مَوْتٍ. يَجْعَلُنَا نَقِفُ عَاجِزِينَ عِنْدَ خَلْقِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.

 

سُبْحَانَ اللهِ!! لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ!!

 

سَيَأْتِي الْرَّبِيعُ؛ لِأَرْتَدِي فُسْتَانِي الْمُلَوَّنِ بِأَلْوَانِهِ الزَّاهِيَةِ، الْمُزَرْكَشِ بِزُهُورٍ رَبِيعِيِّةٍ مُبْهِجَةٍ.

سَأْرْتَدِيهِ وَأَنْطَلِقُ وَاثِقَةَ الْخُطَى، سَأَنْطَلِقُ؛ لَأَتَفَقَّدَ هَؤُلَاءِ مَنْ هُمْ مِثْلِي ذَوِي الْقُلُوبِ الْمُتْعَبَةِ؛ لِأَشُدَّ مِنْ أَذْرِهِمْ. هُمْ الْبَاحِثُونَ عَنْ الْبَهْجَةِ، المُقْبِلُونَ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالْمُتَشَبِّثُونَ بِهَا. هُمْ أُنَاسٌ يَدْخُلُونَ الْقَلْبَ، دُونَ اسْتِئْذَانِ، جَمِيلُونَ شَكْلًا وَمَضْمُونًا. أَشْعُرُفِي حَضْرَتِهِمْ، وَكَأَنِّي أَكْثَرُ جَمَالًا مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. أَشْعُرُ مَعَهُمْ بِأَنَّ الْكَوْنَ فَسِيحٌ، يَسَعُ الْجَمِيعَ.

أَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ فُسْتَانِي الْرَّبِيعِي، فَهُمْ مُبْهَجُونَ، وَيَبْعَثُونَ مَشَاعِرَ الْفَرْحِ وَالْسُّرُورِ فِي نَفْسِي. هُمْ نَادِرُونَ وَأَوَدُّ أَنْ أَوْدِعَهُمْ فِي مَحْمِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ لِلْحِفَاظِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْانْقِرَاضِ.

 

هُمْ مِثْلِي، يُحِبُّونَ الْرَّبِيعَ، وَيَتَطَوَّقُونَ لَهُ شَوْقًا. أُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَنِي، فَأَنَا مَوْلُودَةُ الْرَّبِيعِ، أُحِبُّ الْرَّبِيعَ وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ الْرَّبِيعَ.

فَفِي الْرَّبِيعِ حَيَاةٌ. رَبِيعُنَا لَيْسَ رَبِيعًا خَائِبًا، كَالْرَّبِيعِ الْعَرَبِي، بَلْ سَيَكُونُ رَبِيعًا حَقِيقِيًّا، سَتَعُودُ مَعَهُ كُلَّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى. سَيَأْتِي؛ لِيَشْفِىَ نُفُوسَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ وَغَمٍّ. سَتَنْتَفِضُ فِيهِ أَرْوَاحَنَا الْمُتْعَبَة الْبَاحِثَةَ عَنْ الْرَّاحَةِ، وَالْطُّمَأْنِينَةِ، وَالْسَّلَامِ.

 

هُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ، نُؤْمِنُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نِهَايَةً، وَأَنَّ لِكُلِّ نِهَايَةٍ بِدَايَةً جَدِيدَةً أَجْمَل. نَحْنُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ شِتَاؤُنَا سَيَنْتَهِي لَا مَحَالَةً. وَأَنَّ رَبِيعَنَا قَادِمٌ لَامَحَالَةً. نُؤْمِنُ بِأَنَّ مَازَالَ هُنَاكَ أَمَلٌ وَأَنَّ اللهَ مَعَنَا!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى