تهاني عدس تكتب الطريق إلى أرض العِزة

الطريق إلى أرض العِزة
بقلم تهانى عدس
إسمى صابرة وموطني الأصلي هو أرض النور، هى أرض فاضلة، أهلها طيبون ومتفائلون للغاية، يحلمون دائما بعالمٍ أفضل ومسالمونَ.
هُمْ لا يجيدون العداوة والبغضاء ولا يشنون حرباً، لا يعرفون الإنتقام لكنهم لا يترددون في إشهار أسلحتهم في وجه أى مغتصب لإسترداد الحق ورده إلى أصحابه.
إنهم مصابون بلعنة منذ ولادتهم وهي لعنة الإحساس والشعور. فهم لديهم حساسية مفرطة تمكنهم من إستقبالِ إشعاراتٍ كونيةٍ تعطيهم قوة هائلة على الإحساس. فيقومون بتبني مشاعر الألم نيابة عن المنكسرين والحزانى والمظلومين والمقهورين والثكالى أينما كانوا، وكأن هذه هي مهمتهم الأساسية فى الحياة. يُساورهم هاجس دائم بضرورة الهجرة إلى الجانب الآخر المظلم من العالم لمد يد العون للمظلومين وتخفيف معاناتهم وآلامهم.
جئنا إلى هنا فرادى ونحيا في شتاتٍ متباعدين. وجدنا الجميع ملهوٍ فى حفلةٍ تنكريةٍ صاخبة. يرقصون وكأنهم مصابون بمسٍ شيطانيّ يجعلهم غير مبالين بأنين المظلومين والمقهورين. فتعلو أصوات حناجرهم ومعازفهم فوق صراخ الثكالى واليتامى والمشردين.
كلما إزدادوا صخبًا، كلما إزددنا نحن صمتًا، كلما ازداد صمتنا كلما إزدادت رغبتنا فى الإنعزال. لكننا عندما ننفرد بأنفسنا نستطيع أن نسمع بوضوحٍ تلك الإستغاثةِ التي تأتى فتشق جدار الصمت فى وجداننا فيتصدع، ثم تسمح للحزن أن ينشر فى شرايين قلوبنا نشرًا.
هذه الاستغاثة قادمة من أرض العزة، وهي أرض ليست بعيدة من هنا. أهل هذه الأرض يعانون من الظلم والقهر منذ عقود على يد جيوش من طيور الظلام الجارحة.
لقد سُلبت أرضهم وقُتلَ شيوخهم ونسائهم وأطفالهم على مرأى ومسمع من الجميع. ثُمَ سُجِنوا بسجنٍ جماعيٍ ضخم وعُزلوا عن العالم كله والكل يقفُ ساكناً بدون حراك.
لم يعد يجدي تجاهل صوت ضمائرنا الذي يصرخ من ألم جلدات سوط التأنيب. فكان علينا نحن قوم النور أن نلبي النداء.
بميعاد معلوم سينهلُ قومى من كل فجٍ عميقٍ إلى أرض العزة لإنقاذ أهلها واسترداد أراضيها المسلوبة.
منهم من سيأتي بحرًا مستقلًا قوارب الأمل ثم يُبحرُ بإتجاهِ شاطئ بحر العزة، ومنهم سيأتي براً متطياً جياد مجنحة، ومنهم من سيأتي جوًا محمولًا على ظهورِ طيورٍ من نورٍ تحمل بمناقيرها سهامٍ من سجيلٍ. وسيجتمع الجميع هناك عند بوابة أرض العزة.
وهي بوابة عريقة، تُعْتَبَر المَعْبر الوحيد لأرض العِزّة. سيصل قومي عندها ويقرعونها. سأكون أنا هناك بانتظارهم وسأفتحها على مصراعيها ليدخلوا أرض العِزة ويحرروا أهلها من قيود الطغاة المُعتدين.
وصلتنى إشارة كونية تخبرنى بمصدر ذلك الصوت المبحوح من شدة الألم. إمتطيت جوادى لتبدأ رحلتى إلى أرض العزة.
فاتجهت إلى درجِ قلعتى المتجه إلى الطابق السفلي من القلعة.
ثُمَ قادنى إلى مخرجٍ سرىٍ لا يعلم به أحد إلا أنا.. لما وصلت عنده إكتشفت أنه يسمح بالخروج فقط. كان مكتوب عليه: من يغادر أرض النفاق لن يعود لها مرة أخرى.
فور خروجي منه وبسرعة فائقة إنغلقَ ذاتيًا بواسطة بابٍ صخرىٍ يشبه باب مغارة. فإنطلقتُ أنا بجوادي فى ممر معتمٍ لتتبع الصوت، وفى نهاية الممر بدا الصوت أوضح وأعلى.
أولُ ماخرجت من الممر صُعقت من هولِ الصدمة!!
يالهُ من دمارٍ شاملٍ!!
شهدت أشلاء لأطفال صغار ونساء وشيوخ ورجال منثورة في كل ركنٍ من أركان الحي.
رأيت ركام وأطلال المنازل تقف مكسورة وكأنها تنزف دماً بعد أن شهدت بما فعله طيور الظلام الغابرة بسكانها.
أما أشجار الزيتون المسالمة فرأيتها تجفف دموع الحسرة بأغصانها المحترقة ولا تدري ما ذنبها لتُقْتلعُ من جذورها وتُحرقُ.
ثم بى أسمع تلك الاستغاثة تأتى من تحت الأنقاض والتي بدت وكأنها على وشك الاحتضار.
أسرعت نحوها وأنا قلبى يرتجف، وناديت:
من هنا؟
فجاءت الإجابة بصوت طفلة صغيرة مُجهدة: “أنا عَزْة”!!
سألتها: هل معكِ أحياء يا عزة؟
قالت: لا، اُستشهد الجميع ولم يتبق إلا أنا.
بدأت فوراً بالحفر بكل قوتى لأنقذ هذه المسكينة من الموت. بعد عدة دقائق استطعت أن أصنعُ حفرة صغيرة فى الحطام. ثم مددت يدي وناديتها: أمسكي بيدي يا صغيرتي!
مدت يدها الصغيرة المغطاة بالغبار، فبدت عروقها جافة من الجوع والعطش. فأمسكت بيدها وسحبتها بقوة إلى خارج الحفرة. فخرجت عَزّة لترى النور مرة اخرى بعد شهور قضتها وسط أشلاء أسرتها فى الظلام الدامس.
أجلستها بجانبى لبُرهةٍ حتى تلتقط أنفاسها المتسارعة، ثم ناولتها كوباً من الماءِ لتروى عطشها.
كانت ترتدى شماغاً باللونين الأبيض والأسود، أضفى على ملامح وجهها الصغير بتعبيراتٍ يغلفها مزيج من السلام والمقاومة والصمود.
أما نظرات عينيها كانت تشبه نظرات لسيدة مُسنة بالسبعين من عمرها تغمرها لمسات من الحكمةٍ والقوة والذكاء.
مسحت دموعها بشماغها وهي تتفقد نظراتى لها. ثُمّ نظرت الىّ فى تعجب وقالت:
هل اتيتِ وحدكِ؟ أين بقية القوم؟
أجبتها: إنهم قادمون!
ثم أمسكت بيدها وقلت لها: هيّا بنا!
قالت: إلى أين؟
قُلْتْ: سنذهب لنفتح بوابة العزة لأهل النور
نظرت لى قائله:
مهلاً! أنا لن أترك داري ودار آبائي واجدادي، إما إستردادها أو نيل الشهادة.
فنظرتُ اليها برفقٍ وقلت:
تعالى معى وأعدك أننا سنعود جميعاً متحدين على قلب رجل واحد، لا لنسترد دارك ودار آباءك وأجدادك وحدها، بل لنسترد الحي بأكمله.
شعرتُ بومضةِ أمل توهجت فجأة بوجه عَزة فوافَقَتْ ان تصطحبنى. ثم إنطلقنا بإتجاه بوابة العِزة.
أنا وهي نتطوق شوقاً للحظة وصول جنود أرض النور. ربما يصلون بعدة عدة أيام أو شهور أو سنين لكنهم سيأتون إلى أرض العِزة وسيحررونها من آثارِ الظلمِ والعدوانِ.