عفو الوزير ابن هبيرة .. بقلم / محمـــد الدكـــرورى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم أما بعد، إننا لو نظرنا في سير الصالحين وتأملنا في أحوال المتقين لرأينا أنهم من الصامتين، نعم من الصامتين عن اللغو والباطل، المكثرين من ذكرالله وقول الحق، وفي الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اطلع على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يضع حصاة في فيه، يمنع بها نفسه عن الكلام، ويمد لسانه بيده، فقال له عمر “مه غفر الله لك ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال إن هذا أوردني الموارد” وما أورده رضي الله عنه إلا كل خير، وقد روى الإمام مالك مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن من القائل عنه ؟
إنه الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنه وأرضاه، القائل أبو بكر رضي الله عنه، فانظروا إلى حرصه على لسانه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان أبو بكر رضي الله عنه يقول هذا الذي أوردني الموارد يعني هذا الذي أوقعني في المهالك أي هذا الذي جائني بالمصائب هذا الذي ورطني هذا الذي أهلكني هذا الذي أوردني الموارد كانوا يحرضون على سجنه ويخافون من جرمه، ولقد نال العالم الوزير ابن هبيرة العلم والفقه والوزارة معا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد، ويعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة، فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري فقال بل قال بهذا الإمام مالك.
فقال ابن هبيرة رحمه الله ” هذه الكتب ” وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس فقالوا بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال أبهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك، فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس، وهب أنك أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة، أو في مكان الأشيري، فما هو في مجلس علماء، لو كنت أنت وهذا الإنسان وليس معكما ثالث، وقال لك أبهيمة أنت هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي إلى مجلسه وتحضر معه؟ ثم لو قال لك ذلك أمام الآخرين هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع إليه؟
فلما إنعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئا لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم ولا أنا إلا كأحدكم، فكيف كان أثر هذه الكلمات؟ وهي بالمجّان لا نخسر عليها شيئا، فتجاوز هذه النفس وتغلب عليها” فضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جدا من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وإرتفعت الأصوات بالدعاء والثناء وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول أنا المذنب، أنا الأولى بالإعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول القصاص القصاص، فتوقف أحد العلماء وقال يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير له حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد.
فقال هذا الفقيه نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال عليّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة يعطى مئة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة عفا الله عنك وعني، وغفر الله لك ولي” فهل نحن كذلك؟ فإذا كنا في مجلس وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ وهو عداوة إلى يوم الدين، وقلب يتقطع، ونفس حرقاء حراء على هذا الإنسان، فنسأل الله العافية، فإنها كلمات لم يخسر فيها شيئا بل إزداد رفعة، ونحن نتحدث عنها بعد قرون وبعد مئات السنين، ولو أنه بقي مع نفسه فكيف سيكون حال هذه الصلة والعلاقة.