عودتان .. قصة قصيرة بقلم / محمد على عاشور

 

الأنظار الشاخصة المتأملة الممتلئة بالفرح أربكته ، منذ أن وطأت قدماه الشارع كانت خطواته ثابتة وراسخة ،عيناه تتحركان في مقلتيه يميناً ويساراً ، البسمة لا تفارق شفتيه ، وهو يومئ برأسه كي يرد التحية التي تشبه التهليل . 

صعد الأتوبيس العتيق وسرعان ما اتجهت الأنظار إليه ووقف كل الركاب وهو يمر وسطهم باحثاً عن مقعد . 

: تعالى يا دفعة هنا مكاني 

قالها شخص وقد نهض من مكانه ليتركه له فرحاً 

: لأ .. تعالي هنا جنبي .. أنا عندي مكان فاضي 

: لا .. جنبي أنا 

: علىّ الطلاق بالتلاته ما أنت قاعد إلا جنبي . 

نطقها الرجل فأسكت الجميع الضاحكين الفرحين وحسم الموقف لصالحه.

: خد يا دفعة ، والنبي لازم تاخد مني وتأكل ، مد إيدك يا بني ما تكسفنيش 

قالتها عجوز وهي تمد له يدها بكيس من البرتقال ، فأخذ واحدة وهي تصر أن يأخذ أكثر .

  يأتي أخر ومعه كيس من الموز يدفع به إليه فيشكره ، لكن الرجل يقسم بالطلاق إن لم يأخذ منه سيلقيه من الشباك . 

: وسع لي يا خويا شويه كده ، خد يا دفعه ، شوية كحك من بتاع العيد ، والله أول مرة يبقى له طعم من زمان ، دا إحنا عمرنا ما عيدنا زي السنة دي ، طب دوق دي كمان . 

: وقعت كام طيارة يا دفعة ؟

: ضربت كام دبابة ؟ 

: قتلت كام واحد منهم ؟ 

: ألا صحيح معاهم نسوان بتحارب ؟ 

: احكي لينا يا دفعه . 

    اسئلة تأتي من كل مكان وهو يبتسم في داخله ولا يعرف ماذا يفعل إلا أن ينظر فى تلك العيون الفرحة ، واحتوته هالة من الحرج وهو يرى كل هذا الاحتفاء .

   حاول أن يدعى النوم وهو يهرب من نظراتهم السعيدة ، وقد انفرجت عن شفتيه ابتسامة عندما سمع في جنبات عقله شخص يقول له ( محجوز يا دفعه .. محجوز ) 

عندها ذهب إلى المكان الوحيد الخالي وجلس بجوار راكب أخر ، رمقه الراكب ، ثم قام وفضل الوقوف في مؤخرة الأتوبيس عن الجلوس بجواره . 

كان يتمني أن تنشق الأرض وتبتلعه أرحم من أن تحرقه هذه النظرات ، ثم تحولت النظرات إلى همسات خفيفة سرعان ما تحولت إلى تهكمات ونكات ثم سباب أعجزه عن الرد لمدة ، وعندما أراد أن يسكتهم بإظهار غضبه لم يجد إلا المعايرة . 

: كنتوا اعملوا رجاله هناك . 

وقتها سقط على الكرسي واضعاً رأسه بين كفيه وأخذ يبكي.

 عند ما نزل من الأتوبيس ونظر إلى الأرض الحزينة الباكية على جزئها الضائع ، دخل إحدى حقول الذرة وظل قابعاً بداخله متواريا عن أعين الناس ، الذين سيقابلونه بنظراتهم التي ستشير اليه بالاتهام ، فقد كان يعلم ما تمتلئ به نفوسهم من الخيبة ، خيبة يحملها فوق أكتافه هو وكل يرتدي هذه الملابس . 

   بين أعواد الذرة ظل منكفئاً برأسه على ركبتيه يبكى تارة و يغفر تارة حتى انتهى النهار ، فخرج يتستر برداء الليل إلى أن دخل بينه ، وظل جالساً فيه لا يخرج حتى انتهت إجازته ، وكما دخله ليلا ، خرج منه أثناء الليل .

توقف الأتوبيس العتيق ، هبط منه في هدوء ، كلمات من السلامة تنطلق من كل مقعد في الأتوبيس ، كل الأيادي تلوح له ، والأعين تتبعه و قد خرجت الرؤس من الشبابيك وهو واقف يلوح كمن يودع عزيزاً . 

نظر إلى الشمس ، حاول أن يسرع الخطاء حتى يصل بيته قبل غروب الشمس .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى