لور دكاش.. ماذا تعرف عن «أم كلثوم لبنان» في ذكرى رحيلها؟

المكان حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت، والزمان 24 مارس 1917م، والحدث ميلاد طفلة نابغة سيكون لها شأن كبير مع الموسيقى والطرب، سيلقبونها فيما بعد بـ”أم كلثوم لبنان”، نعم كانت لبنانية الهوية لكنها ستبقى مصرية الهوي، ستعيش وتشتهر في هوليوود الشرق، وستصبح حارسة للتراث الموسيقي الأصيل.. إنها اللمطربة الكبيرة لور دكاش.

معنى كلمة “لور”

عندما ولدت هذه الطفلة الصغيرة، اختار لها والدها اسم “لور”، وهو اسم مشتق من الكلمة الفرنسية “لورييه” أو “زهرة الغار”، ولجارة القمر فيروز أغنية اسمها “لور”، من كلمات وألحات الأخوين رحباني، غنتها في مسرحية “ميس الريم” عام 1975م، تقول كلماتها “يا لور حبك قد لوّع الفؤاد.. وقد وهبتك الحب والوداد”.

النشأة الموسيقية

وُلدت لور لأسرة كانت تعشق الفن والموسيقى، فوالدها جورج دكاش، كان تاجرًا للأقمشة، ومع ذلك كان يكتب الشعر العامي، وأم تجيد الغناء والعزف على آلة العود، أما حارة حريك، التي أصبحت اليوم هدفًا للغارات الإسرائيلية على معقل حزب الله كانت بالأمس مقرًا للفرق الموسيقية، وهكذا كان الجو العام الذي نشأت فيه لور يدفعها لعشق الغناء الطربي الأصيل.

لكن الحياة لم تكن لتبتسم  للصغيرة لور، فقد انفصل والداها في العام الثاني من ميلادها، وهارت أمها إلى أمريكا، وبقيت بصحبة أبيها، الذي كان ينسيها تلك المأساة بالغناء، فألف ولحن لها أغنية لبنانية بسيطة، تقول كلماتها:”تركتني أمي ما في تمي ولا سني.. ربيت مع عماتي وما بشوف خالاتي.. حتي صارت إيدة عل دياتي”.

هكذا كان الغناء أنيسًا للصغيرة في وحدتها، وفي أحد الأيام لم تكن لور قد جاوزت السادسة، كانت تستمع إلى الفونوغراف، حيث كان أبوها يحضر أسطوانات أساطين الغناء والطرب، مثل عبده الحامولي، وسيد درويش، وسلامة حجازي، ويوسف المنيلاوي، وأم كلثوم، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد الوهاب، وكامل الخُلعي، وفجأة غنت بصوت عذب قصيدة “مالي فٌتنت بلحظك الفتاك.. وسلوت كل مليحة إلاكي” من كلمات علي الجارم، وألحان أحمد صبري النجريدي.

موهبة تعلن عن نفسها

أُعجب الأب بصوت ابنته، وأدرك أنه أمام موهبة موسيقية لابد من تنميتها واستثمارها، فعهد بها إلى الموسيقار اللبناني «بترو طراد» الذي قام بتعليمها العزف على العود، ثم كانت الخطوة الثانية اتقانها التدوين الموسيقي وحفظ الموشحات على يد الموسيقار اللبناني الكبير «سليم الحلو»، وذاع صيتها في بيروت كمطربة صغيرة ذات صوت أخاذ تغني لأم كلثوم حتى أطلقوا عليها في بلدها «أم كلثوم الصغيرة»، وكانت تحيي الأفراح وتشترك في بعض حفلات بيروت الصغيرة.

ومع الوقت أصبحت متقنة للعزف على آلة العود، وعارفة بالعلوم الموسيقية، ومتمكنة من المقامات الموسيقية العربية والغربية، وقد مكنتها هذه المعرفة العميقة من أن تقدم أغنيات من ألحانها.

وما أن أقبل عام 1929م، حتى احترفت لور دكاش الغناء بشكل احترافي، وتعاقدت معها شركة بيضافون، لتسجيل عدد من الأغنيات في فرعها ببيروت، وهي شركة أسطوانات مصرية.

وكانت كل الأغنيات المسجلة على أسطوانات بيضافون من تلحينها، ومنها «التليفون» بالاشتراك مع المغني اللبناني «موسى حلمي»، وأغنية «شلبي وأمين البلدية» وهي من تأليف والدها جورج دكاش، ثم قصيدة فجر للشاعر اللبناني بطرس معوض.

لور دكاش في هوليوود الشرق

أدركت لور أن نجاحها لن يكتمل إلى بالهاب إلى مصر، فطلبت من والدها أن تقوم بزيارة للقاهرة «هوليوود الشرق»، فلبّى طلبها وصحبها في رحلة إلى القاهرة سنة 1933م، وهناك  قضت في مصر أسبوعين، وفي تلك الأثناء كانت مصر تنتفض في نضال ضد الاستعمار البريطاني، وكان اسم الزعيم «سعد زغلول» يتردد لسان كل مصري، فذهبت في زيارة لضريح سعد، وهناك غنّت من ألحانها وكلمات الشاعر بطرس معوض، أغنية:

ياروحَ سعدٍ قد سكنتِ قلوبَنا *** وأقمتِ فيها للصلاةِ معبدا

وكان لهذه الأنشودة صدى واسع في القاهرة خاصة في أوساط المثقفين والمناضلين السياسيين، وذاعت شهرة لور دكاش في الأوساط الغنائية والموسيقية المصرية باعتبارها مطربة تنتمي للمدرسة القديمة في الغناء، وأول سيدة تُعرف باحترافها للغناء، حتى أنها كانت مرشحة لتقوم بدور البطولة أمام عبد الوهاب في فيلم “الوردة البيضاء” عام 1933م.

“آمنت بالله”.. سبب الشهرة

وحينما عادت إلى مصر في رحلتها الثانية عام 1939م، شدت بأغنيتها الشهيرة “آمنت بالله”، وهي أشهر أغنياتها على الإطلاق، وهي من كلمات الشاعر التونسي مصطفي حريف، وتقول كلماتها :”آمنت بالله .. نور جمالة آية .. آية من الله”، وعلى الرغم من أن الأغنية من ألحانها، لكنها مُسجلة باسم الملحن فريد غصن، الذي ساندها في بداية مسيرتها الغنائية، وكانت من أكثر الأسطوانات مبيعًا، واشتهرت بها على نحو واسع.

في أواسط الأربعينيات، تعاقدت الإذاعة المصرية مع لور دكاش على إحياء مجموعة من الحفلات تبث عبر دار الإذاعة بالقاهرة، وسينمات قصر النيل وراديو وريفولي والباخرة سوادن، وهذا ما جعلها تنقل مقر إقاممتها الدائمة إلى مصر، وشدت في الإذاعة على الهواء لأول مرة بقصيدة لشاعر الكرنك أحمد فتحي، يقول مطلعها:

أغاريد من ذكرى هواك **** وأنغام تعود فهل عادت ليالي وأيام

وإلى جانب الحفلات، شاركت لور دكاش في العديد من الصور والبرامج الإذاعية الغنائية في الإذاعة، حيث أصبحت صوتًا مألوفًا فيها، ومع ذلك لم تكن مسيرة لور تمضي على نمط واحد، فبعدما فتحت الإذاعة المصرية ذراعيها كفّت عنها مُجددًا، وفي إحدى مقابلاتها تقول لور:”غضت الإذاعة المصرية النظر عني، معرفش إيه السبب، وابتعدت لحد ما بقيت على الهامش”، وكان آخر ما سجلته للإذاعة تلحينًا وغناء هي أغنية “مستحيل تقدر تنسيني الليالي”، التي كتبها الشاعر المصري الراحل صالح جودت.

حارسة للتراث الموسيقي

أصبحت لور دكاش حجة في الغناء العربي القديم، وعندما أراد الموسيقار أحمد شفيق أبو عوف رئيس معهد الموسيقى العربية واللجنة الموسيقية العليا أن يُحافظ على تراثنا  الموسيقي مسموعًا ومدونًا في النوتة الموسيقية، استعان بلور ضمن من استعان بهم من كبار المطربين والحفظة الذين كانوا لم يزالوا على قيد الحياة، حيث سجّلت لور للجنة الموسيقية العليا الكثير من الأدوار والموشحات والطقاطيق والقصائد.

قامت لور دكاش ببطولة فيلم واحد في السينما المصرية هو “الموسيقار”، الذي أخرجه السيد زيادة سنة 1946م، كما شاركت بدور صغير في الفيلم الكوميدي “يا تحب يا تقب” عام 1994م، وغنت فيه أغنيتها الشهيرة (آمنت بالله)، ولها أغان أخرى منها :(لا مستحيل، أنا طبعي كده، أنا قلت لك الحب نعيم، حورية الموج، ميعاد ليلة الأحد).

وجه من الماضي

توارت لور عن الأنظار لفترة طويلة من الزمان، أصبحت صورتها وجهًا من الماضي يومض برفق في زمن الحداثة، وفي مقابلتها الأخيرة مع الموسيقار عمار الشريعي، ضربت المثل على غيابها بالمثل اللبناني “حط العسل في زراره .. تتيجي أسعاره”، يعني يظل العسل في زجاجاته حتي يقبل الناس على شراءه، أما إن نسوه فهذا شأنهم.

اكتفت لور بجولات المشي الصباحية في شوارع مصر الجديدة، وكان قلبها معلقا بالكنائس وتحب دائما أن تكون حاضرة لكل صلاة، وكانت تجيد أداء الترانيم الكنسية باقتدار وتحفظ الكثير منها وترددها في خشوع مع أحفادها.

توفيت لور دكاش في 12 أكتوبر من سنة 2005 بمدينة القاهرة، تاركة خلفها تراثًا موسيقيًا وطربيًا تيتم من بعدها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى