الدكـــروري يكتب: طريقة إنسحاب الجيش الإسلامي في مؤتة

 

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات، الحمد لله الذي علم العثرات، فسترها على أهلها وأنزل الرحمات، ثم غفرها لهم ومحا السيئات، فله الحمد ملء خزائن البركات، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات، وله الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات، وعدد الحركات والسكنات، وأشهد أن لا إله إلا الله لا مفرّج للكربات إلا هو، ولا مقيل للعثرات إلا هو، ولا مدبر للملكوت إلا هو، ولا سامع للأصوات إلا هو، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته، وما انتصر دين إلا بمداد عزته، وما اقشعرت القلوب إلا من عظمته، وما سقط حجر من جبل إلا من خشيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قام في خدمته، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته، وأقام اعوجاج الخلق بشريعته.

وعاش للتوحيد ففاز بخلته، وصبر على دعوته فارتوى من نهر محبته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واستن بسنته وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ثم أما بعد روى الإمام البخاري عن نافع، أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره، وفي رواية أخرى قال ابن عمر رضي الله عنهما كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية، وفي رواية العمري عن نافع زيادة فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده، ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد حيدة.

ثم قال ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتلوه، وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان إسمه ثابت بن أقرم فأخذ الراية وقال يا معشر المسلمين، إصطلحوا على رجل منكم، قالوا أنت، قال ما أنا بفاعل، فإصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلما أخذ الراية قاتل قتالا مريرا، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال “لقد إنقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية” وفي لفظ آخر قال “لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية” وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم يوم مؤتة مخبرا بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال “أخذ الراية زيد فأصيب. 

ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم” البخاري، وكان من الغريب جدا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام ذلك الجيش الكبير من الروم، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد رضي الله عنه مهارته في تخليص المسلمين مما لقوه في تلك المعركة، وإختلفت الروايات كثيرا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرا ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالدا بن الوليد رضي الله عنه نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال، وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الإنحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة، فقد كان يعرف جيدا أن الإفلات من براثنهم صعب جدا لو إنكشف المسلمون. 

وقام الرومان بالمطاردة، فلما أصبح اليوم الثاني إعتمد خالد بن الوليد رضي الله عنه في خطته على الحرب النفسية حيث أمر عددا من الفرسان بإثارة الغبار خلف الجيش، وأن تعلو أصواتهم بالتكبير والتهليل وقام كذلك بتبديل الرايات وغير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وهكذا دواليك، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا جاءهم مدد، فرعبوا، وسار خالد رضي الله عنه بعد أن تراءى الجيشان وهجم على الروم وقاتل حتى وصلوا إلى خيمة قائد الروم ثم أمر خالد بإنسحاب الجيش بطريقة منظمة وأخذ يتأخر بالمسلمين قليلا قليلا، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء 

ولم يتبعوا خالدا رضي الله عنه في إنسحابه، وهكذا إنحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الإنحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة، واستشهد يومئذ من المسلمين إثنا عشر رجلا، أما الرومان فقتل منهم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون رجل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى