معرفة أقدار الرجال .. بقلم الكاتب/ محمـــد الدكـــروري

 

الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا، وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم ثم أما بعد إننا إذا تكلمنا علي الإيمان الصادق بالله تعالي سيكون الحديث غزوة مؤتة التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم لها قادة ثلاثة، يعقب أحدهم الآخر إذا استشهد، والتي كانت أول معركة للمسلمين مع النصارى، فخرجت تلك الغزوة عن المعهود، إذ كانت حروب المسلمين قبلها مع العرب واليهود، وكان سبب هذه الغزوة هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتاب إلى ملك بُصرى، مع الحارث بن عمير الأزدي، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسّاني فقتله صبرا. 

وكانت الرسل لا تقتل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل رسوله، فأرسل إلى مؤتة ثلاثة آلاف من المسلمين في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة النبوية، وجعل عليهم زيد بن حارثة ثم قال صلى الله عليه وسلم “إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبدالله بن رواحة” فمضى الجيش حتى نزلوا أرض معان من أرض الشام، وكانت أخبار هذا الجيش قد وصلت إلى الروم، فجهزوا لملاقاته مائة ألف، وإنضم إليهم مائة ألف أخرى من نصارى العرب، فكانوا مائتي ألف كافر، مقابل ثلاثة آلاف من المسلمين، فالمقارنة بينهما ضرب من ضروب الخيال، والدخول في القتال مجازفة أي مجازفة، مما جعل المسلمين كما قيل يترددون في ملاقاة عدوهم، ويقيمون ليلتين يفكرون في أمرهم، فقالوا “نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا.

فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، لكن عبد الله بن رواحة قطع تفكيرهم، وشجع الناس على المضي في القتال قائلا “يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة” فقال الناس “قد والله صدق ابن رواحة” فمضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، فإنحاز المسلمون إلى مؤتة، وعبأوا أنفسهم فيها، ثم التحم الفريقان، وأنه من الغريب أن ينازل المسلمون عدوهم وهو يزيد عليهم بما يقارب سبعين ضعفا، وإن المقاييس والحسابات ترفض ذلك، لكن تحطمت المقاييس، وألغيت الحسابات فالمقاتلون هنا ليسوا كسائر المقاتلين، بل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلأت قلوبهم إيمانا ويقينا. 

وعلموا أن ما عند الله تعالى حق، فلم يحجموا ويعتذروا بكثرة عدوهم وقلَّتهم، وقوته وضعفهم بل قاتلوا قتالا مريرا، وعانقوا المنايا، وخاضوا حمام الموت حتى استشهد قائدهم زيد رضي الله عنه فأخذ الراية القائد الذي يليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فعقر فرسه الشقراء، وقاتل بالراية فقطعت يمينه، فأمسك الراية بشماله، فقطعت شماله، فإحتضن الراية بعضديه حتى إستشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أبدله الله تعالى عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل “إنه ظل محتضنا الراية حتى قطعوا جسده نصفين، فقال ابن عمر رضي الله عنهما “ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية” وعلى رغم إستشهاده لم تسقط الراية بل أخذها القائد الثالث عبدالله بن رواحة فقاتل حتى إستشهد. 

فمضى الثلاثة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم قادة للجيش، فأخذ الراية ثابت بن أقرم وصاح “يا معشر المسلمين، إصطلحوا على رجل منكم، قالوا أنت، قال ما أنا بفاعل، فإصطلح الناس على خالد بن الوليد” وثابت بن أقرم رضي الله عنه أبى القيادة لا هروبا من المنية، أو خوفا من العدو، ولكنه أحس بوجود من هو أكفأ منه، كيف وقد حمل الراية خشية أن تسقط، وصاح في المسلمين أن يعينوا قائدا والحرب تدور رحاها، وإن ذلك لمن آيات الشجاعة والجرأة في هذا الموقف العصيب، وكم هو جميل أن يصيح الناس به ليكون قائدهم فيأبى إستصغارا لنفسه، وهو يرى وجود من هو أولى بالقيادة منه، وهذا درس عظيم من هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه في معرفة أقدار الرجال، وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها حتى لا نكلف أمّتنا أن تحمل عجزنا وأثرتنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى