بيان العفو المحمدي الكبير .. بقلم / محمـــد الدكـــرورى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، لقد كان فتح مكة البلد الحرام، الذي جعله الله دارا للتوحيد، فجعله المشركون عاصمة للوثنية ومركزا لعبادة الأصنام، حتى كان حول الكعبة وحدها ثلاثمائة وستون صنما، فعاد هذا البلد بالفتح للتوحيد والإسلام، فكان فتح مكة مرحلة حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، ونقطة فاصلة دخل بها الإسلام في طور جديد من القوة والتوسع، والإنتشار غير المحدود، ويوم الفتح، هو يوم نصره الله لرسوله المصطفي صلي الله عليه وسلم على عدوه، وحقق له أمله، وأنجز وعده، فها هي مكة العتيدة العاتية، تسقط أمام كتائب الرحمن وجنود القرآن.
فهي مكة التي خرج منها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ليلا، فها هو يعود إليها نهارا، وخرج منها خفية، فها هو يعود إليها جهارا وخرج منها مضطهدا، فها هو يعود إليها فاتحا منتصرا، وليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه، بعد أن أخرج منها إخراجا فلا عجب أن قرت عين رسول الله صلي الله عليه وسلم بالفتح، وإستمع في سرور إلى عبد الله بن أم مكتوم، وهو ينشد بين يديه حين دخل مكة يا حبذا مكة من وادي أرض بها أهلي وعـوادي، أرض بها أمشي بلا هادي، أرض بها ترسخ أوتادي، حينما علم الرجل تبختر بالنعمة والعافية، كما تبختر بالشدة والمحنة ومن الناس من يثبت في الشدائد والأزمات، ويصبر في البأساء والضراء، حتى إذا إنزاحت الغمة، وجاءت النعمة، وأقبل الرخاء والسعة، ركبهم الغرور.
وسيطر عليهم العجب والكبر، وأعمتهم نشوة الظفر والنصر، وغرهم بالله الغرور، وهكذا عرفنا كثيرا من الفاتحين المنتصرين من قديم وحديث، ولكن موقف رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم هو أحد الدلائل على أن الله تعالي قد إصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، وبعثه ليتم به مكارم الأخلاق، لقد دخل مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح مرجعا، وقد حنى رأسه تواضعا لله تعالي حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه “دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وبطنه على راحلته متخشعا” ولأول مرة، ترى الدنيا فاتحا ينتصر على أعدائه، وتدين له عاصمة بلاده، يدخلها في مثل هذا التواضع والإخبات والخشوع لله رب العالمين، ونهض رسول الله صلي الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله.
حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فإستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحوله البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس ويقول ” جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ” وإن من الدروس والعبر والفوائد للفتح الأعظم فتح مكة هو إنزال الناس منازلهم، وقد تجلى هذا في إعطاء الرسول المصطفي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان كلمات يقولهن، فيكون ذلك فخرا له واعتزازا، وهي “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن” ينادي بها بأعلى صوته، وكذلك بيان تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم لربه شكرا له على آلائه وإنعامه عليه إذ دخل مكة وهو مطأطئ الرأس، حتى إن لحيته لتمس رحل ناقته تواضعا لله وخشوعا.
فلم يدخل وهو الظافر المنتصر دخول الظلمة الجبارين سفاكي الدماء البطاشين بالأبرياء والضعفاء، وكذلك بيان العفو المحمدي الكبير إذ عفا عن قريش العدو الألد، ولم يقتل منهم سوى أربعة رجال وامرأتين، وكذلك بيان الكمال المحمدي في عدله ووفائه، تجلى ذلك في رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة، ولم يعطه من طلبه منه وهو “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه وهو صهره الكريم وابن عمه، وكما أن من الدروس والعبر والفوائد للفتح الأعظم فتح مكة هو وجوب كسر الأصنام والصور والتماثيل وإبعادها من المساجد بيوت الله تعالى، وأيضا تقرير مبدأ الجوار في الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ” وأيضا وجوب البيعة على الإسلام، وهي الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر في المعروف وما يستطاع.