الدكـــروري يكتب: يوم الفتح والإستمساك بالحق

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، عندما دخل رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم مكة فائزا منتصرا فقد صلى عليه الصلاة والسلام في المسجد، فقدم إليه الإمام علي بن أبي طالب بعد أن جلس الإمام علي ابن عمه وزوج إبنته، جاء ومفتاح الكعبة في يده، فقال يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، وكانت سقاية الحجاج مع بني هاشم، وهي مكلفة وغُرم لا غُنم فيه، بينما كانت الحجابة مع بني طلحة، وهي غُنم لا غُرم فيه، وكذلك انطلق العباس عم النبي صلي الله عليه وسلم في رجال من بني هاشم أن يختصهم الرسول بمفتاح الكعبة.
ولكن النبي صلي الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة، الذي كان قد منع النبي صلي الله عليه وسلم يوما من دخول الكعبة في مكة، وأغلظ له ونال منه، فلم يمنع ذلك النبي صلي الله عليه وسلم أن يناديه ويقول له “يا عثمان، هاك مفتاحك، اليوم يوم وفاء وبر، يا عثمان، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنك على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف” ثم التفت إلى ابن عمه، وعمه وغيرهما من بني هاشم وقال لهم “إنما أعطيكم ما ترزءون لا ما ترزءون” فإذا كان المنتصرون الذين يقبضون على أزمة السلطان، يسارعون بتوزيع المغانم والأسلاب على الأقارب والأصحاب والمحاسيب، فها هو رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم يعطي أقرب الناس إليه ما يزرأهم ويكلفهم
ويعطي البعيدين عنه والمعادين له، ما يجلب عليهم رزقا دارا، وعيشا قارا، فقد عرف الناس الفاتحين المنتصرين تشمخ أنوفهم، وتتمايل بنشوة النصر رءوسهم، وينسبون النصر والفضل في نجاحهم لكفايتهم وبراعتهم ومهارتهم وحسن حيلتهم وتدبيرهم ولذلك يوعزون إلى أتباعهم وأنصارهم أن يهتفوا بأسمائهم، ويشيدوا بذكرهم، ويرفعوا صورهم في كل مكان، ولكن النبي صلي الله عليه وسلم نسب الفضل في هذا النصر كله إلى الله وحده، فكان هتافه ونشيده الدائم في هذا اليوم العظيم “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده” فهكذا كان رسول الله صلي الله عليه وسلم، ودخل دار أم هانئ بنت عمه فإغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان الوقت ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى.
وإنما هي كما قال الحافظ ابن القيم “صلاة الفتح” ولهذا قالت أم هانئ “ما رأيته صلاها قط قبلها ولا بعدها” وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلدا أو حصنا، صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم، وعرف الناس أصحاب المبادئ، وعرف الناس كثيرا من أصحاب المبادئ والعقائد يتمسكون بها قبل أن يتمكنوا ويحكموا وينتصروا، فإذا حكموا وانتصروا تبخرت هذه المبادئ العذبة، وإرتدوا على أعقابهم القهقرى، وأصبحت هذه المبادئ حبرا على ورق، أو كلاما أجوف، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم الذي نادى بالعدل والمساواة من أول يوم وهو في مكة، لم يتخلَّ عنها لحظة واحدة، فها هو يأخذ بعضادتي الكعبة، ويعلن في قريش أهل الحسب والنسب، وأولي العزة والفخار.
فيقول “يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب” ذلكم هو رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم الفتح، إستمساك بالحق إلى أبعد مدى، وسماحة وعفو، وخشوع وتواضع، وصلاة واستغفار، وإنابة إلى الله تعالي، وهكذا فإن من أسباب النصر هو حسن التخطيط، وإستغلال مستجدات الأحداث، ولقد تمثل ذلك جليا في صلح الحديبية التي إنعقد بين المسلمين وقريش، فكان فتحا مبينا ومقدمة لفتح مكة، حيث لم تلبث قريش أن نقضت هذا الصلح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز للسير إلى مكة، وكان ذلك في سرية تامة حتى لا يعلم أهل مكة أنه يريدهم، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، وتم فتح مكة.