أخر الأخبار

ذات الوشم قصة قصيرة بقلم الكاتبه والإذاعية مروة المصري

ترجل من قلبها حافيا تاركا ذكرياته و متعلقاته الشعورية إلى حيث الظل ؛ ليتوارى في غياهب الشك منتعلًا حوافر الشيطان..

شرهًا إلى فضيحة تبيح له الرحيل دون أعذار ؛ فلا يمكن أن تمتطي المكيدة عقله دون دليل و ها هو يدبرها..

المؤسف حقاً أن الحد الفاصل بين إنكاره للحب و تقبله ضبابيًا غامضًا ، فكلما انساق وراء رغبته و كاد أن يستسلم منغمسًا في ليلة رومانسية استفاق كممسوس من الجن عولج لتوه مستهجنًا نزعته الفطرية و الفكرية للمرأة…

جالسها على نحو بضعة أمتار من شرفتها ،ممتطيًا مقعدًا خشبيًا متهالكًا يئن كلما جلس عليه ليتراقص يمينًا و يسارًا مفصحا عن حاجته للإصلاح..

لكنه لا يأبه لأمره ، فقد أدمن مراقبتها أو بالأحرى تفاصيلها العذرية ليتيقن أنها تصلح لخرق قواعده المقيتة ، طالما افتقرت نظرته إلى السلام ، فهو يظن أن الحب معركة هو قائدها الأوحد و المنتصر بلا منازع و الخسارة الفعلية حين يتغلب الحب عليه ، إلا إنه يتوق إلى تلك الخسارة الممتعة ، فالانتصار على كونه شعورًا عظيمًا لكنه سطحيًا مملًا لا يمكنه أن يستوطنك ، لكن الهزيمة تمتد جذورها إلى حيث لا يمكنك استئصالها أو بتر أصولها ، لذا قرر أن يمنحها الفرصة ربما يحصل على إحدى اللذتين..

اعتاد المراقبة من ذلك المبنى المواجه لشقتها، رآها تنفق أوقاتها ليلًا في سماع معزوفات بيتهوفن و كأنها فتاة تحمل طابعا أرستقراطيا ، حتى إذا حان منتصف الليل ترتدي ثيابًا طفولية مرسومًا عليها شخصيات كرتونية ،و تشاهد فيلمًا كرتونيًا أيضًا و المثير حقًا أنها ترسل الكثير من العبرات و تقضي ربما ساعة أو أكثر عابسة إثر لقطة درامية ،حتى تتحول فجأة و تبدو فتاة بلهاء لتطلق ضحكتها الصاخبة تدوي و كأنها وابلا من الضحكات المرعبة التي نفثتها إحدى المنازل المهجورة ، و مابين تلك الضحكات و البكاء فهي لا تكف عن تناول الشيكولاتة تلك التي لها غلاف أرجواني مشوبا باللون الذهبي ، ربما توحي لك هيئتها بعد النهاية المأساوية للفيلم أنها ستخلد إلى النوم ،لكنها تتزين كفتاة في ليلة الكريسماس و ترتدي فستانًا أسودًا أنيقًا ، لتتجول بكعبها العالي غرفتها و يظن الرائي أنها في حفل راقص ، فتتمايل حيث تنسكب أنوثتها على جانبيها ثم ترتقي تارة أخرى، وإذا استقامت تجد في انحناءات جسدها كل معاني الاحتواء و كأنها فتات من عِناق تكسر منتشيًا من عذوبتها ،و تظل هكذا حتى يشكو إليها كعبيها ؛فتلقي بحذائها بعيدًا متجردة من رسميتها لتدنو نحو العفوية و البراءة فتدور كالأطفال حتى يرتفع ثوبها و ترتفع معه غريزتها الدفينة.. حين تصاب بدوار و لا تجد يد حبيب تنقذها من السقوط ، فتفترش الأرض حزنًا تتنفس الصعداء تلملم حالها و تبدل ثيابها بأخرى أكثر إثارة و تصعد إلى سريرها في خنوع تام لأحلام مجهولة تحاول ترويضها ؛كي تجلب السعادة و الرضا و إن كانا وهمًا مصطنعًا..

أوشكت السيجارة أن تحرق أصابعه المخضبة بالتبغ يبدو أنه غفل عنها أثناء مراقبته لتلك المثيرة للجدل. نظر في ساعته الرولكس تلك الساعة العتيقة ذات الميناء السوداء التي انتزع واجهتها الزجاجية ؛ليقتلع عقرب الدقائق ؛فهو لا يحب أنصاف الأشياء و كل ماهو غير مكتمل ،لا يهمه إن كانت الواحدة إلا ربع أو الواحدة والربع يكفيه علمًا أنها الواحدة ، أطفأ سيجارته بينما اشتعلت رغبته في النوم لأول مرة. فقد اعتاد تناول المهدئ كل ليلة ليس لإراقة دماء السهر وإنما لقتل أفكاره السامة ليلًا.

لذا أسلم مقاليد عقله لأول مرة لوسادته دون مقاومة تذكر ،وأخيرا لم يلق نظرة على ذراعيه حيث وشم عليه مبدأه السرمدي :(الحياة كامرأة جميلة إذا أردت الاستمتاع بها لا تكن ضحية لها بل اجعلها ضحيتك) ربما لا يود أن يتذكره الآن حتى لايفسد لذة طال انتظارها.

و على غير العادة لم تزره أية كوابيس في تلك الليلة تهدد بمقاضاة قلبه و اعتقاله من قبل امرأة كاهنة.

و لكنه حتى الآن لم يخرق أيان من قواعده للخيانة ، فلازال متفرجًا بلا لقاء بلا نظرة ثاقبة لملامحها ،

فالقاعدة الأولى لديه هي: ألا تنظر إلى عيونها بل إلى مفاتنها التي قد تجذبك لبضع ساعات لكن عيونها قادرة على أن تجعلك أسيرًا لبقية حياتك.

لكنه لم يدر بعد أنه أصبح فريستها ،

وأن تلك الراهبة في محرابها لديها وشم على امتداد عمودها الفقري محفور في أوصالها لم و لن يتسنى له قراءته ألا وهو : العالم كله لك إلا أنا ، لم أُخلق للتجربة ؛فوجودي نادر كقطعة أثرية لذا مت كمدًا وأنت تراقبني).

و في الصباح قامت ذات الوشم من مخدعها في عجلة من أمرها تزيل مساحيق التجميل الذائبة في ملامحها ، و تشد شعرها المنسدل بقسوة تعاقبه على تأخرها المتكرر،تجذب ثوبها الأسود الفضفاض و أرسلت على رأسها (المانتيلا).. و أخيرا استيقظت الكاهنة في زيها المقدس لتستدير إلى نافذة ذلك المراقب النائم باعثة بيدها قبلة حارة وشبح ابتسامة يداعب كلماتها الخيلاء: لقد تحولت أسوأ كوابيسك إلى واقعا ياحبيبي..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى