صلاح الدين في بيت المقدس .. بقلم / محمـــد الدكـــروري

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمدك اللهم حمدا ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء، وأشكرك وأستغفرك، وأشهد أنك أنت الله وحدك لا شريك لك، ولا حول ولا قوة إلا بك، بك نحول، وبك نصول، وبك نقاتل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدك ورسولك الذي جاهد في الله حق جهاده، جاهد بسيفه ولسانه وسنانه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه أما بعد، ذكرت المصادر التاريخيه أنه لما اقترب صلاح الدين الأيوبي من بيت المقدس خرج إليه أعيانها يعرضون عليه الصلح فقال لهم إنه يعتقد كما يعتقدون هم أن هذه المدينة بيت الله وإنه لا يرضيه أن يحاصرها أو يهاجمها، وعرض على أهلها أن تكون لهم الحرية الكاملة في تحصينها وأن يزرعوا ما حولها من الأرض.
إلى ما بعد أسوارها بخمسة عشر ميلا دون أن يقف أحد في سبيلهم ووعدهم بأن يسد كل ما ينقصهم من المال والطعام إلى يوم عيد العنصرة فإذا حل هذا اليوم ورأوا أن هناك أملا في إنقاذهم كان لهم أن يحتفظوا بالمدينة ويقاوموا المحاصرين مقاومة شريفة أما إذا لم يكن لهم أمل في هذه المعونة فإن عليهم أن يستسلموا من غير قتال وتعهد في هذه الحال أن يحافظ على أرواح السكان المسيحيين وأموالهم، ورفض المندوبون هذا العرض وقالوا إنهم لن يسلموا المدينة التي مات فيها المسيح منقذ الخلق، ولم يطل حصار المدينة أكثر من اثني عشر يوما ولما أن إستسلمت بعدها فرض صلاح الدين على أهلها فدية قدرها عشر قطع من الذهب عن كل رجل وخمس قطع عن كل امرأة وقطعة واحدة عن كل طفل أما فقراء أهلها البالغ عددهم سبعة آلاف.
فقد وعد بإطلاق سراحهم إذا أدوا إليه الثلاثين ألف بيزانت التي بعث بها هنري الثاني ملك إنجلترا إلى فرسان المستشفى، وقبلت المدينة هذه الشروط ” بالشكر والنحيب ” على حد قول أحد الإخباريين المسيحيين ولعل بعض العارفين من المسيحيين قد وازنوا بين هذه الحوادث وبين ما جرى في عام ألف وتسعة وتسعون ميلادي، وطلب العادل أخو صلاح الدين أن يهدي إليه ألف عبد من الفقراء الذين بقوا من غير فداء فلما أجيب إلى طلبه أعتقهم جميعا وطلب بليان زعيم المقاومين المسيحيين هدية مثلها وأجيب إلى ما طلب وأعتق ألفا آخرين وحذا حذوه المطران المسيحي وفعل ما فعل صاحبه وقال صلاح الدين إن أخاه قد أدى الصدقة عن نفسه وإن المطران وباليان قد تصدقا عن نفسهما وإنه يفعل فعلهما ثم أعتنق كل من لم يستطع أداء الفدية من كبار السن.
ويلوح أن نحو خمسة عشر ألفا من الأسرى المسيحيين بقوا بعدئذ من غير فداء فكانوا أرقاء، وكان ممن إفتدوا زوجات وبنات النبلاء الذين قتلوا أو أسروا في واقعة حطين، ورق قلب صلاح الدين لدموع أولئك النساء والبنات فأطلق سراح من كان في أسر المسلمين من أزواجهم وآبائهن ومن بينهم جاي، أما النساء والبنات اللاتي قتل أزواجهن وآباؤهن فقد وزع عليهن منه ماله الخاص ماأطلق ألسنتهن بحمد الله وبالثناء على ما عاملهن به صلاح الدين من معاملة رحيمة نبيلة، ذلك ما يقوله إرنول مولى باليان، وأقسم الملك والنبلاء الذين أطلق سراحهم ألا يحملوا السلاح ضده مرة أخرى ولكنهم ما كادوا يشعرون بالأمن في طرابلس وإنطاكية المسيحيتين حتى أحلهما حكم رجال الدين من يمينهما المغلظة وأخذ يدبرا الخطط للثأر من صلاح الدين.
وأجاز السلطان لليهود أن يعودوا إلى السكنى في بيت المقدس وأعطى المسيحيين حق دخولها على أن يكونوا غير مسلحين وساعد حجاجهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وطهرت قبة الصخرة التي حولها المسيحيون إلى كنيسة بأن رشت بماء الورد وأزيل منها الصليب الذهبي الذي كان يعلوها بين تهليل المسلمين وأنين المسيحيين، وسار صلاح الدين على رأس جيشه لحصار عكا ولما وجدها أمنع من عقاب الجو سرح الجزء الأكبر من جنده وإنسحب وهو مريض متعب إلى دمشق عام ألف ومائة وثماني وثمانون ميلادي، في الخمسين من عمره.