( أصول المهنة )

( أصول المهنة )
” يا صاحبي الناسُ حُمُرٌ فَجَوِّزْ ، فإذا نلت ما تشتهي منهم فَفَرْوِزْ .. ” !
__________
قالها بديع الزمان في المقامة ( البغدادية ) يصف مبدأ المحتال على لسان أبي الفتح الإسكندري مخاطبا رَاوِيتَهُ عيسى ابن هشام عندما سأله ” هل يؤنبك ضميرك ؟ .. ” ، والمعنى في نظر المحتال هو أن الناس كالأنعام فلا يرق قلبك لحالهم إذا خدعتهم و ( جَوِّزْ ) أي تجاوز عن رقة القلب ، وإذا قضيت عمرك وقد أخذت من الناس ما تريد ففارقهم ولا تبالي لترتاح منهم ولا تأسف عليهم و ( فَرْوِزْ ) ، والفروزة إشارة إلى حال جسد الميت عندما يتصبب بالعرق ويزيد إفرازه لأن سائر مسامات الجلد تتفتح عقب خروج الروح منه ،
كل هذه البلاغة وأكثر في عبارة بديع الزمان القصيرة ، ولكن الشاهد الذي أريده في العبارة هو ظني بأن سوادا عظيما من الناس في هذا العصر يحترف ذلك المعنى دون إدارك منهم بتحديده ووصفه ، وأصبحوا وأمسوا يحترفون الكُدية والإحتيال على بعضهم البعض ، ثم تدور الدائرة ليصبح الضحية محتالا – بعد أن تعلم – على من لم يتعلم ، ويمسي المحتال ضحية لمن هو أقدم منه في التعلم ، وهكذا تدور وتدور ، ولم نتحول على طريقة ( توفيق عكاشة ) إلى ( بلاليص وزِلعْ ) ولكن تحولنا على طريقة ( أبي الفتح الإسكندري ) إلى سلالات كثيرة من المُكدين المحتالين تسير في سلم التطور البشري الذي يتطور في ( النصب ) والإحتيال كلما تقدم به الزمان بحكم التراكم والخبرة في هذا المجال المتسم بالعراقة والقِدم والتأصيل والتقعيد المردود إلى أعلامه ورواده المحنكين أمثال ( الهمذاني ) و ( الحريري ) ، ثم أخذ هذا المجال في عصرنا الشكل المؤسسي والدولي فرأينا شركات كبرى تحتال على شركات أصغر ورأينا دول مُتَعَمْلِقة تحتال على أخرى مُتَقَزِّمة ، ثم نجد من الدبلوماسية وتنميق العبارات وإحكام المبررات من الجاني ما يثير إعجابك ويثنيك على أقل تقدير عن مهاجمته ذلك إن لم تُعجبْ به وتُصفقْ له من شدة إنبهارك بذوقه الرفيع وبيانه الضليع ؛ تماما كمن ” يضع لك السم في العسل ” ، ولكي لا أخرج عن إطاري المتواضع في الغابة الكبرى أعود و أقول ، ورغم ما قد يَرِد في هذا المجال من وضاعة ، فإنه لا يخلو من بيان وبلاغة وحُسْن بضاعة ، بل أقول إنه مملوء بجميل الحكايات والصورْ ؛ ما يؤخذ منه العبرة ويَقَرُّ به البصرْ … ”
م.أ