«بيروت» تحتضن أول التعابير عن الفكرة العروبية

فى نهاية القرن السادس عشر، تكونت إمارة جبل لبنان، وتمتعت بقدر من الاستقلال عن السلطنة العثمانية، ما كفل لها صفات مثل الانتقال المبكر إلى التجارة الدولية، والانفتاح الثقافى على أوروبا، وكانت تسكنها أغلبية مسيحية، وتنقسم الكتلة السكانية ما بين مسلمين (سنة) لم يكن المذهب الشيعى معترفا به آنذاك، وكانت هناك جماعات مشمولة بالحماية، مكونة من مسيحيين ويهود، وكانوا محرومين من الوظائف الإدارية والعسكرية، وتركزت أعمالهم فى الزراعة والمهن الحرة، وكانت هناك جماعة درزية غلبت عليها الوظيفة القتالية والبنية القبلية.
حكم آل شهاب جبل لبنان من عام 1697 إلى 1788 وتوسعت الإمارة فضمت جبل عامل وفلسطين، وعندما استدعى السلطان محمد الثانى والى مصر محمد على للمشاركة فى الحملة العسكرية على اليونان، توقع محمد على أن تكون هناك مكافأة، كان طموحه يرقى إلى سوريا، فأعطاه السلطان جزيرة كريت، فرفضها وأرسل جيشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا للاستيلاء على بلاد الشام، وحاصرت قواته عكا، واستعان ببشير شهاب، الذى وضع قواته تحت إمرة إبراهيم باشا، فسيطر على صور وصيدا وبيروت وطرابلس وأخيرا دمشق، وواصلت القوات المصرية لتهديد الآستانة نفسها.
تمرد الدروز على حكم إبراهيم باشا، وكانت تلك المرة الأولى التى يواجه فيها سكان لبنان بعضهم بعضا على أساس طائفي، هزم الدروز، لكن فى العام التالى تمرد شيعة جبل عامل، وقمع إبراهيم باشا تمردهم، بمعاونة مقاتلين جندهم بشير شهاب، وفى يونيو 1840 التقى ممثلون عن الموارنة والدروز والسنة والشيعة.
شكل جبل لبنان وسوريا وفلسطين منطقة اقتصادية على مقدار من التكامل بين أجزائها، ومع انتصاف القرن التاسع عشر كانت الكنيسة المارونية قد أضحت لاعبا مهما فى الحياة السياسية فى جبل لبنان.
مع ظهور اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 تم تقسيم الولايات العربية فى السلطنة العثمانية إلى منطقتين: بريطانية وفرنسية، فاحتلت فرنسا لبنان وطردت ممثل الحكومة العربية فى بيروت والجبل، ولتأمين انتدابها على الأراضى التى سوف تصبح “لبنان الكبير” اعتمدت فرنسا بالدرجة الأولى على الكنيسة المارونية، وسعت للتوصل إلى تسوية مع الأمير فيصل، الذى كان يبحث عن إنشاء دولة عربية فى سوريا، بعد اتفاق سرى بينه وبين الفرنسيين، وتملصت فرنسا من وعودها له، وانتهى الأمر بفرار فيصل إلى العراق ليعلن من نفسه ملكا على العراق، فى ظل الانتداب البريطاني، وأخوه عبد الله أميرا على شرق الأردن، وقسمت فرنسا سوريا إلى أربع دويلات.
عرفت بيروت نموا كبيرا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حين غير الاستعمار الأوروبى طرق التجارة الدولية فى حقبة الثورة الصناعية الثانية، صار محور بيروت – دمشق الممر الرئيسى للتجارة الدولية شرق المتوسط، بالإضافة إلى توليها القسط الأكبر من تصدير الحبوب التقليدية من الداخل السورى، كانت صادرات بيروت الرئيسية هى الحرير الخام، وما تستورده يأتى من إنجلترا، واعترفت السلطنة العثمانية بدور بيروت التجاري، فأعلنتها عاصمة لولاية جديدة تحمل اسمها.
تضاعف عدد السكان ثلاث مرات خلال ثلاثة عقود، وعشية إنشاء لبنان الكبير عام 1920 كان عددهم يبلغ 120 ألف نسمة، وتوسعت بيروت فيما وراء أسوارها، ونمت أسواق على الطراز الأوروبى خارج المدينة القديمة، ورجحت كفة الاقتصاد للتجار المسيحيين الذين سيطروا على تجارة الاستيراد الدولية، فيما اضطر المسلمون إلى الاكتفاء بالتجارة بين مرافئ السلطنة، وبتصدير المنتجات الزراعية من بر الشام إلى أوروبا، وبتجارة الحبوب المحلية، غير أن المصالح الاقتصادية المسيحية، دون السياسية، كانت غالبة فى المدينة عشية الحرب العالمية الأولى.
فى ذلك التوقيت كانت بيروت تتحول إلى مركز للطباعة والنشر، كانت الكتب تطبع بالعربية فى إيطاليا وفرنسا، مع أن المطابع فى جبل لبنان نشأت قبل تلك الفترة بزمن، وكانت أول مطبعة معروفة تباشر طباعة الكتب الدينية بالحرف السيرياني، منذ عام 1610 وفى العام 1732 أنشئت أول مطبعة عربية جديدة، وفى العام 1914 كانت بيروت وحدها تصدر 168 مطبوعة.
كانت النهضة اللبنانية حركة من أجل نهضة العرب القومية، وكان بطرس البستانى هو الرائد فى صوغ فكرة “الوطن” وكانت بيروت قد احتضنت أول التعابير عن الفكرة العروبية، لكن الحرب العالمية الأولى تركت آثارها المباشرة على بيروت وجبل لبنان، فكان القمع العثمانى ضد الحركة الاستقلالية فى بيروت والجبل قاسيا، تحت قبضة جمال باشا الملقب بالسفاح، ومع إعلان الحرب فرضت السلطات العثمانية التجنيد الإجباري، وهناك تفاصيل مؤلمة حول اجتياح الجراد، وتفشى الأوبئة، وانتشار البغاء والمجاعة، كان البشر يلتهمون لحوم الكلاب، والجمال النافقة.
إن لبنان، بلد حضارى، قدم للبشرية نماذج متألقة فى مختلف المجالات، منذ فجر التاريخ، اشتبك مع محيطه القريب والبعيد، تم احتلاله من قبل الحضارات القديمة، أثر فيها وأثرت فيه، ومثل رئة للمنطقة منذ قديم الزمان إلى العصور الحديثة.
رحلته كانت محفوفة بالخطر، لكنه بقى صامدا فى وجه الأعاصير، ومنذ تكوينه الحديث فى القرن السابع عشر، واجه عواصف عاتية، لكنه نجا منها، وثمة تواريخ فاصلة بدأت مع تكوينه عام 1925، واستقلاله عام 1946، وأزماته المتتالية فى عام 1958، وعام 1969، وعام 1975، وصولا إلى تموز 2006، والعدوان الإسرائيلى الحالى الذى سوف ينتصر فيه، ولابد أن يعود لبنان الدولة، وهناك قاسم مشترك بين الجميع، وكما يقول فواز طرابلسى فى كتابه «لبنان من الإمارة إلى اتفاق الطائف»، ومهما يكن نجح اتفاق الطائف، بالتباساته وتناقضاته، لوضع حد للنزاعات المسلحة، وفتح صفحة جديدة للبنان.