بين بيت لاهيا و قرطاج ..الجزء الثالث/ للكاتبة: وجيدة عبد الرحمان الهاني

سأل إعلامي أجنبي طفلا من غزة قبل الحرب عن أحلامه فأجابه : أن أكبر وأصبح طبيبا وأسس عائلة… فرد عليه الإعلامي سألتك عن أحلامك ولم أسألك عن حقوقك…
وحسام وباقي سكان غزة كبيرهم وصغيرهم أفضل تجسيد لهذه
” العبرة…”
كنت في البداية أعتبر كلمة إبادة كلمة كبيرة إلى أن حدث ما حدث مع حسام…
لقد كان شابا مدنيا مسالما في عينيه معاني الوداعة والسكينة واللطف… لم يكن مواليا لأي فصيل وكانت السياسة آخر همه … كانت لديه أحلام بالسفر إلى بلجيكا للإلتحاق بصديق له هناك. وحين سألته لماذا تدعو نفسك أبا يامن وأنت بعد لم تتزوج. أجابني لأنني أنوي تسمية إبني البكر يامن إن شاء الله..
ولكن اليد المتوحشة عديمة الرحمة لم تشأ سوى أن تغتال حقوق حسام وأحلامه معا … فسفره للخارج هو حقه في التنقل والزواج وتكوين أسرة هو أبسط حقوقه الإنسانية أيضا…
أعود إلى تسجيلاته الصوتية بعد قصف بيته أول مرة فأجد صوته يراوح بين التفاؤل حينا والرهبة أحيانا أخرى … بين بعض من السعادة تارة ومن التوجس والإختناق تارة أخرى… وكنت كمثل قصة الأعمى الذي يصف لصديقه المريض في المستشفى حديقة غناء … وافرة الأشجار… مونعة الأزهار… مغردة الأطيار… حتى إذا ما إسترد عافيته وذهب لمعاينة الشباك وجد قبالته جدار عال لا إطلالة من خلاله ..
كان حسام يبكي كلما سمع عن خبر إستشهاد ناس في غزة.. سواءا كان يعرفهم أو لا يعرفهم…
ورغم صعوبة الوضع وإفتقار المدينة لأبسط مقومات المعيشة … كان متمسكا بالحياة تمسكه ببيته الذي قصفته الدبابات… ورغم هذا عاد لبقيته القائمة فنظفها وواصل العيش فيها …
وحين ألقوا على مشروع بيت لاهيا مناشير الإخلاء الفوري أخبرني صديقه بأنه ترجاه الخروج وألح عليه فأبى قطعيا وقال : “بدي موت هين” وكذلك فعل ضيوفه المسنين والبنات والأطفال..
وقصفت طيارة الأف 16 ما تبقى من بيت حسام وسوته بالأرض… وإرتقى الشاب الخلوق شهيدا … وأخرج من تحت الركام الرمادي نظيفا ناصعا لا غبار عليه…
نظيفا كما كان يحب النظافة وجلب الماء للشطف والجلي والوضوء… وكما كان يحب مساعدة الناس ورحمة الضعفاء من كبار السن والمحتاجين..
سلام على روحك الطاهرة الخالدة يا إبني..
سلام على أرواح الشهداء جميعا …
سلام على المرابطين المدافعين عن الأمة …